14 - 06 - 2025

الشاعرة لطيفة المسكيني في ديوانها الجديد "فتنة غياب" أم فتنة لغة؟

الشاعرة لطيفة المسكيني في ديوانها الجديد

تمتعت كثيرًا بقراءة ديوان الشاعرة لطيفة المسكيني فتنة غياب أخذتني اللغة الصوفية على الفور الى سحرها العميق كماء زلال يكشف ولا يكشف كلما غصت فيه أعطاك بعضه وليس كله. حاولت أن أجلي الدهش كما تسميه لطيفة حتى أجد المفتاح، ومع توالي النصوص أهدتني أول الأسرار: إنه الترابط الذي يمد حبل الاقتراب ويقطع المسافة إليها هي قصة إذن عن فتنة الغياب التي أدركت الشاعرة أن الحبيب قد وقع فيها، وربما وقعت هي فيها معه. قصة لها عنوان وبداية يعرفها النص الأول كتاب الوهم ثم تتوالى النصوص كي تكمل فصولها، وتقطر لنا التفاصيل التي تكشف العتمة رويدًا وعلى مهل حتى يؤخذ الحبيب "إلى الأبعد/ قدت النعال/ ما هنا باق".

يتميز الديوان بلغة شديدة الاقتصاد يكون الصوت فيها هو واهب المعنى فيما يصبح الإيقاع في القصيد هو جل منتهاها. إيقاع الموسيقى الخارج من الدف والعود والطبلة. للطيفة المسكيني علاقة قديمة طويلة مع استخدام الصوت كمعادل للحرية أيضًا كما في ديوانها "حناجرها عمياء" تقول:

قسْ عُمُرَ السَّماءِ والأرْضِ بصَرْخَة إنْ قَدَرْتَ

 اختفت المعاني في ستائر اللغة وتركت لنا البراح في اختيار التأويل والإدراك؛ في الإقامة في المستحيل، في الكلام الشارد، في حدائق الوهم الإلهية، على أنها تحمل الحبر بوحًا أعلى مما تطلبه وتشعر معه بخيانة عهده لها، على الرغم من فتنة الحرف التي ظلت ملازمة لها حتى آخر القصائد

أرى السيل/ لاأراني/ أرى فتنة الحرف

وكانت قد قدمت قصتها بكتاب الوهم الذي يجمع المتفرقات التي لا جامع لها سوى القصيدة بين الصباح واللسان، بين الماء وهذا الكلام، وكأن الوهم هو إقامة على حدود الأشياء تتطهر فيه اللغة؛ في الظن في الشك في الاحتمال في التكتم لآن حقول الحبيب حرائق، وهي حائرة بين تكلف الوهم وتملكه لها. لهذا تناشده الترفق بالأضداد والحالمات من بنات اليقين، ثم تثور عليه متهمة نفسها بأنها أدت إلى مضايق الخيال كرماد أو غبار، وهو محض وهم سواء في خصبه أو جدبه لأنها هي مصابيحه المتقدة من زيت العدم.

 في قصيدتها التالية جعلتني أتساءل عن المسافة ما بين الوجود والغياب، وكيف وقعت في فتنة اللا مرئي واللا محدود بعد أن يطوف الدهش وسط الغبش هل يمكن أن يتحول الحبيب إلى صاحب غريب؟ هل يمكن أن يصبح الصب خليلاً؟ والفؤاد ما صمت ولا نطق فالدروب حيرة لسانك يسمعها وأنت لست المرآة؟

 ماذا فعلت بطلتنا لمواجهة وقوع حبيبها في وهم الزمن؟ استجدته، هابت به أن ينتبه إلى كونه كاملا؛ "بعد في قرب قرب في مسافة" تمسكت بالروح في مواجهة الزمن لأن الزمن هلام والجسد هلام، تكاد تصرخ أنت لست المرآة، لست سجنجلاً " فضة لها قدرة على الانعكاس أيضًا" ولا أنا مرآة أنت والزمن سلف؛ جدًا أعلى. ومع هذا تنقسم على ذاتها روحًا وجسدًا تتساءل لأي وعد اجتزت المسافات؟

تطالب نفسها بالتحرر: "خطي سطرك، اتركي ورق العين يفرش للإيقاع باحته". مشغولة بالمعاني الخفية التي تأتيها ليس فقط من عناقيد الجمل ولكن من خمول المزمار والدف والبزق، وكأنها هي الإيقاع التائه الذي لا تحده الأرجاء "ألم تسلق ألمًا". تعود وتعترف أنها والإيقاع كانا شبيهان قبل الخلق وهو ما جعلهما في النهاية "وجوهًا للمعنى أقنعة الكلام"

في أقاصي الممشى تستخدم الفلاش باك لتسترجع ما كان بين الحبيبين: "كنه عائد يعد العصف طوف ساع إلى مرفأ" ويعود الصوت ليسيطر على الصورة مرة أخرى فيكون لصوتها الراجف غواية الغياب، وبدلا من وصول الطوف إلى المرفأ تبيعهما الأزمنة بحذق المرابي للتراب، برخص التراب فالسماء الصخرية محاج لا تفضي إلى أي درب ويكون اللقاء الأخير سرابًا فالذي انطلق من ساعة الساحات حبًا هاجرًا غيابًا راكضًا، فتصبح أرضها وسمائها لها وحدها لكن رجفة الروح في الثنايا تطلب منه أن يغنيها حنينًا للأزمنة للأماكن حنينا لسويعات عنه لم تسافر.

مثل كل قصة حب تصارع نهايتها تعود الحبيبة تبكي الأطلال:

 قف نبكي الفراغ

 ثم تطرح السؤال بم التعلل؟ هل لهذا السؤال إجابة في قصة حب اختارت الغياب؟ تحاول أن تصف مشاعرها لعلها تجيب على السؤال تقول: "كالألم أنت كالمعنى منجب لا يفنى"، لكنها تدور دون الوصول إلى شيء تصف الغياب الذي كان يزين الحضور السابق "لمامًا رأتك يدي لمامًا لامستك العين" على الرغم من غربتها كانت قد انتهت عنده، فقد كان فعل البدايات فتتساءل أين هي الآن؟

تحكي فصلا من تجربتها مع الترجمة واستدعاء آن ساكستون وبوكوفسكي ونصوصهما التي كانت تعيش معها في القبو. تتراءى لها الأطياف التي تنهض من رحم السراب إلى رميم الغياب ويتحول الزمن أيضًا إلى طيف بلا ساق وكأنها تشتهي أطياف الضياء، وتفرق من الحنين بطيف خطى الحبيب وهي ترى في رقصة الأيبنوز أن "عليك أن تكون طيفًا بلا ظل بلا شبيه"

تسرع في النصف الثاني من ديوانها الإيقاع فلا تعود هناك ضرورة لذكر الدف والبزق والطبلة، فالقصيدة تفرض موسيقاها في مقاطع صغيرة تعكس ما جرى للحبيبين اللذين لم يعودا قادرين على التأمل أمام النتائج الواضحة للغياب في قصيدة فيض

نار وطين/ بين حين/ وحين/هل تراني؟/ أنا فراغك

في قصيدة نفس

تجلى

حرفًا

وأحرق

الألواح

تأثرت كثيرًا الشاعرة بدراستها للقطب الصوفي الكبير محي الدين ابن عربي، فحققت وقدمت كتابه بلغة الغواص في الأكوان في معدن الإخلاص في معرفة الإنسان" . واشتركت أيضاً في تقديم كتاب جماعي "ابن عربي في مقام الشاوية". 2019. (مفهوم الولاية من منظور ابن عربي).

كما أنها تأثرت أيضًا بدراستها للفرنسية التي تترجم منها دواوين الشعراء إلى العربية فهي على الرغم من لغتها التي يغلفها الغمام عميقة المعنى والتأثير منفتحة على الجديد في كتابة الشعر منها النصوص القصيرة التي لا تتعدى أربع كلمات. وهي ناقدة متميزة مطلعة على أسرار الفن، لكن قواعده لم تأسرها أو تحد من جموح خيالها، وكانت رسالتها للدكتوراة بعنوان في نقد الخطاب الشعري العربي الحديث بعنوان " الصوفية والحداثة. تجربة أدونيس التنظيرية نموذجا".

قدمت لطيفة للمكتبة العربية العديد من الدواوين منها"السٍّفْر المنسي" " قُزَحِيات الصمت"،" حناجرها عمياء" " فتنة الغياب" و"الطروس"

هي أستاذة جامعية وناشطة ثقافية ومسئولة في وزارة الثقافة المغربية وقد حصلت على جائزة فاس الشعرية لسنة 1993 الممنوحة من جمعية أصداء للثقافة والفنون بفاس. وجائزة الديوان الأول للشعراء الشباب الممنوحة من بيت الشعر في المغرب لسنة 2003 عن مجموعتها الشعرية الأولى " السِّفْرُ المنسي ".
-------------------------
بقلم: هالة البدري