14 - 06 - 2025

حصن الزيدي: الرعية "وقود حرب" حين لا تستقر الأنصبة في صراعات المصالح

حصن الزيدي: الرعية

أعمال محمد الغربي عمران تعري الواقع منذ أطلق روايته الشهيرة "مصحف أحمر" عبر " ظلمة يائيل" وصولا لروايته الأخيرة

أتابع الكاتب اليمني محمد الغربي عمران منذ أطلق روايته الشهيرة مصحف أحمر التي وضعته في مصاف كبار كتاب الرواية العربية. عمران الذي درس التاريخ وعمل نائبًا في البرلمان اليمني ثم تفرغ للكتابة. قدم للمكتبة العربية حتى الآن: سبع روايات، وخمس مجموعات قصصية.

  يشغله التاريخ بظلاله على الحاضر، يتوغل به ليقدم لنا ثلاثة محاور يراها عمودًا لكل الصراع الذي ما يزال يدور على أرض اليمن: القبائلية، الدين، والعسكر، على خلفية القاط باعتباره أحد العناصر المؤثرة على هذا العالم. وتنسج قصصه ورواياته خيوطًا تقف على صراع المصالح بين القوى الثلاثة في محاولة لتعرية هذا الواقع وفضحه، وإثبات أن الاتفاق فيما بينهم يؤدي إلى هدوء نسبي على السطح، على حساب استغلال الرعية وامتصاص دمها، أما في حالة عدم استقرار الأنصبة التي تمتلكها كل من هذه القوى، فإن الحرب تشتعل على الفور دون النظر لمصلحة الرعية، والتعامل معها باعتبارها وقود حرب.

تنقل الغربي عمران بين نقاط تاريخية مفصلية، في كل عمل من أعماله، ليدعو إلى الحرية، وفصل الدين عن الدولة، والخروج من قهر العادات والتقاليد القبلية التي مازالت تحكم البلاد. في روايته مصحف أحمر اتخذت الرواية من الصراع بين قوى اليسار واليمين بعد عام  1977 مرورًا بزمن الوحدة عام 1990، وتدخل الدول الأخرى في شؤون البلاد وما نتج عنها من حروب طائفية مسرحًا لأحداثها، من خلال محاولة أسرة يمنية الحفاظ على مصحف أحمر يضم الثلاثة أديان، وما عانته أثناء جمع مادة وثائقية لمبادئ الصابئة، والبوذية الحقتها بهامش الكتاب، مشيرًا إلى التراث الإنساني للشخصية اليمنية مستخدمًا لون الدماء التي سفكت في الصراع باسم الدين.

  في رواياته التالية ظلمة يائيل قدم صراع الأئمة للوصول إلى الحكم. في القرن الخامس الهجري، وما نتج عنه من قتل وسلب ونهب في فترة حكم على بن محمد المصيلحي ليثبت أن الصراع الطائفي متجذر في تاريخ اليمن. وهو ما أعاد طرحه في حصن الزيدي إذ أن الحصن تقلب اسمه من حصن مرداس، إلى حصن الزيدي، ثم حصن الثورة حسب القوى المسيطرة عليه.

  وقدم في كل أعماله حيرة الشعب أمام ما يطرحه عليه الأئمة، وكل من يرفع شعار الدين، من أفكار، وأكاذيب، واستخدامه كوسيلة للوصول إلى السلطة، ينقلب بعدها على الناس، ويعمل فيهم تقتيلاً، ونهبًا، وسجنا، وسحقًا لإنسانيتهم مثل سابقيه تمامًا، والكاتب يدعو في رواياته لتحجيم دور الدين في أماكن العبادة واقتصاره عليها، وعدم التدخل في مصائر الناس مثل مشهد منع ثم اعتقال رجال شهناص لقارون، وزهرة من الغناء والعديد من المشاهد شديدة العنف سواء في حصن الزيدي، أو مصحف أحمر، أو ظلمة يائيل، وهي المشاهد تدفعنا لنبذ الطائفية، ووقف هذا الصراع الديني، الذي يقوم على كذبة كبرى مثل بناء ضريح لجد زيد الفاطمي دون أن يكون هناك رفات من الأصل ليحج إليه الناس، ويمثل سلطة قاهرة موازية لسلطة الحصن. وهنا تطرح أعماله سؤال حول حصاد الثورات سواء ثورة 1962، أو ثورة 2014 أو غيرها من الثورات على مدار التاريخ اليمني. وما استفاده المواطن اليمني الباحث عن العدل الإنساني دون تفرقة دينية، أو مذهبية في بلاد لا يحكمها قانون أو دستور؟

  تبدأ رواية حصن الزيدي بمشهد إطلاق أب رصاصة رحمة على ابنه عبد الجابر، الذي أصيب أسفل بطنه أثناء حملة تأديب للعصاة في الغابة، وهو مشهد بالغ الحساسية والإثارة، جذاب وضعنا في أتون الصراع مباشرة. وقبل أن تنتهي عدة صفحات يكون مسرح الرواية قد انجلى أمامنا، وهي مهارة تحسب للكاتب.

  تنقسم الرواية إلى ثلاثة أقسام يحتل حصن مرداس أكثر من ثلثها، ويحتل حصن الزيدي أكثر من نصفها، في حين يشغل الفصل الأخير حصن الثورة مساحة صغيرة تنهي العمل نهاية مفاجأة، شديدة الاختصار، باختفاء رمز العسكر العائد بعد تعليمه إلى البلاد، ممثلاً للثورة وإشاعة رحيله مع قارون ابن قاتل أخيه عنصيف وأحد أبناء عمومته في ذات الوقت، والذي يحتل اسمه العنوان الثانوي تحت حصن مرداس في بداية العمل. وربما يكون السبب هو التنبؤ بعودتهما أو تقرير المجهول الذي يحل بالبلاد.

  سرعان ما نتعرف على مجتمع يعيش على زراعة البن، والقات، ولا نرى مشهدًا واحدًا لزراعة الحبوب والطعام، وعلاقة سلطة بمحكومين لا يمتلكون شيئًا، معظمهم من طبقة الخدام التي تقدم نفسها طواعية للعبودية، ولا تعرف شيئًا آخرًا، غير هذا الأمان الوهمي، الذي يقدمه الحصن بسلطته القبائلية لقبولهم على هامش مجتمع يتناقص تدريجيًا بالقتل، أو الحبس في صراع السلطة بين أبناء العمومة، ويضطرون للبحث عن أجراء آخرين، للقيام بباقي الأعمال الضرورية للزراعة ثم الحرب بعد ذلك. ونتعرف من جهة أخرى على صراع أبناء العمومة والجيران في الشرق من أجل الاستيلاء على مساحة أكبر من الأراضي، والقرى

  مسرح الرواية يدور في زمن استعداد الإنجليز للخروج من اليمن، والقوى المتناحرة لتحل محل سلطتهم. مرورًا بالمد الشيوعي على أرض اليمن. ثقافة دينية ضد التطور الحضاري لإحكام قبضتها على الناس. لم أقرأ أبشع من الصور التي يقدمها عمران في جميع رواياته، ليس على مستوى الخيانة وحدها، ولكن على مستوى صراع الإيديولوجيات المستمر، الذي لا سند له؛ (مقبرة بلا رفات) والذي يخفي حقيقة كونه صراع سلطة، ينفي الآخر، ويدمر ما بقي، أي يجتز العرق؛ (كل من بقي من أبناء العم في السجن مقطوعي كف الأيدي اليمنى، والنساء مفقوءة الأعين اليسرى، وتحويل بعضهم إلى خدم، ويساق إلى الحرب إذا ما لزم الأمر). صراع الجنود الذين لا يفرقون بين ظالم ومظلوم (الدبابة تصيب كل الأهداف بلا تبصر، أو تفرقة) والشعب يتحول إلى خدم ويجر إلى ساحة القتال ومن يرفض يعدم.

  في روايته هذه استخدم المؤلف الراوي العليم ليربط بين أجزاء الرواية المثقلة بالأحداث ولم يلجأ إلى الفانتازيا التي لجأ إليها في الثائر، ولم يطلق لخياله العنان فجاءت نموذجًا للواقعية القذرة بكل شرورها، وقدم رجال الدين بتنوع مذاهبهم في صورة واحدة مستنسخة، لا يقبل العقل العادي للمواطن تصديقها (الحوار بين قارون وعرام عن عدم اختلاف شنهاص عن المستشار يزيد). فكل منهما يملك سلطة إلهيه تستخدم لاستغلال الناس.

لماذا الواقعية القذرة لأنها كما عرفها مبتدعها ريتشارد فورد عالم صادم لأناس ضائعون في بيئتهم الخاصة. كتابة غاضبة تعبر عن الاحتجاج على الخيبات الكبرى وانكسار الأحلام وتآكل الأيديولوجيات. تستخدم جملاً مجردة من الزخرفة وهذا ما يستخدمه عمران عادة. تحكم سيطرتها التامة على الموضوعات، والأحداث البسيطة التي تتطلب منا أن نكون شهود عليها.

   لغة شديدة الصراحة لا تعكس شعورًا بالدهشة؛ (كأنه يتكلم عن الغربي عمران وكتابته بالفعل)، ثم الوصول بها إلى أبسط الأساليب (الراوي العليم). وعلى الرغم أن الواقعية القذرة حين ظهورها قد عبرت عن المواطن الأمريكي البسيط الغارق في الاستهلاك بدون فائدة، إلا أن استخدامها في عالمنا العربي، نتيجة صدمة الوصول إلى اللا شيئ تعد أمرًا مفهومًا بالنسبة لي.    

توقفت عند الأسماء التي أطلقت على الحصن: فمرداس هو اسم لأسرة عربية من بني كلاب من قبيلة هوازن القيسية وقد هاجر بعضهم إلى شواطئ الفرات الشامية وأسسوا الدولة المرداسية الشيعية في حلب. فهل هاجر بعضهم إلى اليمن أيضًا فالاسم منتشر هناك؟

  في حين أن اليزيدية طائفة دينية إسلامية تنسب إلى زيد بن على بن الحسين بن على ابن ابي طالب، وقد حكمت اليمن إحدى عشرة قرنًا وهم يتبنون فكرة الخروج على الحاكم ويميلون إلى المذهب الحنفي

  ولقد وجدت تناقضًا بين الأسس التي قامت عليها الزيدية وبين تكوين الأمين زيد الذي يبني ضريحًا خاويًا، والزيدية لا يقدسون القبور. هم شيعة لكنهم مختلفون عن الاثني عشرية والسبعية (الإسماعيلية)، ويخالفونهم في تحريمهم الخروج على الحاكم في غيبة الإمام المختفي في دهاليز سمراء، ويخالفون السلفية في مسألة الخروج على الحاكم أيضًا.

في حين أن شنهاص الذي من المفترض أنه سلفي حسب الرواية كان يحرض على الخروج على الحاكم وكأنهما تبادلا الأدوار

  عمران يحب بطلاته من النساء، ويقدمهن ببراعة، سواء في حصن الزيدي؛ من شبرقة، إلى زهرة، أو شادن، أو عيشة، أو فاطم وحمامة إلى أروى في مملكة الجواري. متنوعات الهوى ممتلئات بالعاطفة، والشجاعة، متفردات بتكوين نفسي وبدني وبيئي مختلف.

لغة سلسة جزلة، واضحة وصريحة كما أسلفت، تصل بسهولة إلى القارئ في غير ترهل، كلمات نحتها خصيصًا في جمع التكسير على وجه الخصوص: الأخدام، الأدرام، عقال.

حصن الزيدي قطعة فسيفساء وجدت مكانها بسهولة في مشروع لوحة محمد الغربي عمران الأدبية

بعض الأسئلة الاستكشافية:

هل ميرداس هو عيداروس بن يحي حميد الدين الهلالي.

هل جمال هو المقدم إبراهيم الحمدي ثورة التصحيح الذي اغتيل في 77؟

هل خروج جمال وقارون معا دليل على فشل الثورة أو تأجيلها أو ماذا؟

--------------
بقلم: هالة البدري