«يلعب مع ابنته، ويواسي عازفًا كسرت زوجته آلة كمانه فقرر أن يموت، ويغازل موظفات بنك، ويكتب قصيدة لماكينات صرف الأموال، ويسجل واقعة انتصار رجل وكلبه الوفي على موظفي المستشفي العام..»، هذه وغيرها من الموضوعات وقعت ضمن الخيارات الشعرية للشاعر المصري عبد الرحمن مقلد، في ديوانه الجديد «عواء مصحح اللغة»، الصادر عن «منشورات الربيع»،ضمن إصداراتها الخاصة بمعرض القاهرة الدولي للكتاب 2020.
ويبدو أن لدى عبد الرحمن مقلد، رغبة حقيقية في أن يتعامل شعريًا مع موضوعات جديدة، عبر معالجتها شعريًا، مثلًا كأن يقف الشاعر أمام ماكينات صرف الأموال، ويسجل هذه اللحظة، التي تمر علينا جميعا؛ لحظة اهتزاز الماكينة، وخروج الأموال منها، يقول: «وأنتن يامُتْرَعاتِ الحضورِ/ وياساقياتِ المَدِينينَ خمرًا من الكَهْرُباءِ ورائحةِ المالِ/ يامانحاتِ القروضِ مؤجلةِ الدفعِ/ أمطرنني بسلالٍ من القُبلاتِ الأثيريةِ اللاهبةْ/ تَخَطَّفَنَ من وَرَقِ البنكنوتِ/ لتكشفن عُريي.. وتغرينني لأعودَ إليكنَّ/ ياسيداتِ الأزيزِ».
ويصر الشاعر في ديوانه الثالث على أن تكون الموسيقى اشتراطاً أساسياً في كل قصيدة، ويحرص على وجود الإيقاع، متمسكاً بالوزن الشعري العروضي في أغلب النصوص، كما يعتني بلغته عناية خاصة، يظهر حرصه على الدقة في أن تكون الكلمات معبرة وحيوية وقادمة من حقول مختلفة، فحين يتحدث الشاعر عن ماكينات الصرف ويغازل موظفات البنك نرى لغة لها طابع رقمي تقني، وتظهر عبارات مثل: «أُخْرِجُكن من الخِدْمَةِ المصرفيةِ»، و«ياواهباتِ الغرامِ على هيئةِ البنكنوتِ وياصاحباتِ الوجوهِ الذكيةِ والغزلِ الرقميِّ..»، وفي قصيدة بعنوان «العمة تزورني في الليل»، نجد الشاعر يأتي باللغة في حقل آخر، إذ تحمل دلالات شعبية مصرية، فيخاطب الشاعر عمته الميتة التى تعاوده الزيارة: «ألا ترغبين ببعضِ العبثْ/ ببعضِ المزاحِ/ كأن ترسمي فوقَ أيدي الصغارِ/ دوائرَ أسنانِك الطيبةْ/ وأن تقرصي وجَناتِ البناتِ لتحمرَّ.. / ولتحذري إن تضايقن منك ...الصبايا كَبِرنَ/ وصرن يُرَتِّقن أثوابَ أزواجِهن/ وأنتِ إذا عُدتِ/ لن يستريحَ الرجالُ/ البيوتُ تَضيقُ/ الشوارعُ ليستْ هيَ/ النهرُ جَفَّ/ وراحتْ قراريطُك الخمسُ/ والإخوةُ العائدون من الحَقلِ/ماتَ كِبَارَهُمُ/ والصغارُ يدورون في ماكيناتِ البخارِ/ وابنُك ماتَ...».
وتحضر «ماريا» ابنة الشاعر في قسم من القصائد يحمل عنوان «مع ماريا»، وفيه يلوذ الشاعر بابنته من أخطار العالم؛ من حروبه، من كوارثه، وظلمه، ويتمنى أن ينتهي هذا العبث الكوني، وأن تكون الابنة البريئة رئيسة لهذا الكون، فتنشأ معركة طفولية في الغرفة، تشارك فيها دمى وألعاب الفتاة الصغيرة، وفي الآخر يتصالح الطرفان، وتنتهي الحرب كأنها لعبة: ماذا يا «ماريا»/ لو أصبحتِ رئيسةَ هذا الكَون/ اخترتِ «الدُميةَ» قائدةً/ و«السَمَكَةَ» مسئولةَ قواتِ البحريةِ/ و«الأرجوزَ»رئيسَ الحرس/ وغنى «الضفدعُ» مارشالَ الحرب/ مالوأعطيتِ الجُندَ بنادقَ من خَرَزٍ/ وتَبَادلنا اللهوَ الكونيَّ/ هنا في الغرفةِ/ وأدرنا المعركةَ/ قذفنَا نحو الأعداءِ/ قنابلَ من عَلَكٍ/ ورصاصًا من ماءٍ/ ودَفعْنَا «البطةَ» في الصفِّ الأولِ/ وتساقطَ سربُ الطياراتِ الورقيةِ/ ماذا لو طاوَعنا الأعداءُ/ وخرَّوا صَرعى/ وأعادُوا الكَرَّة وسقطنا/ نحتبسُ الأنفاسَ/ ونضحكُ بهدوءٍ /كي يحتفلوا بالنَّصْرِ/ وينكسرَ الحزنُ الدائمُ في قَلبِ أبيكِ.
كما نلحظ في الديوان هذه النبرة الداعية إلى الخلاص، والتمسك بالمقاومة كخيار ضد الاستسلام للموت والخراب وضد السقوط البشري، ففي قصيدة «مواساة العازف ناصر علي»، يخوض الشاعر مغامرة لإنقاذ العازف ناصر علي الشخصية الرئيسية في الفيلم الفرنسي «دجاج مع الخوخ»، الذي قرر أن يموت خلال سبعة أيام، احتجاجًا، حين حطمت زوجته آلة كمانه، وهنا يحاول الشاعر، أن يثنيه عن قراره ويغريه بالحياة والعودة للعزف بأن يصلح آلته، مستعينًا بدون كيخوته البطل التراجيدى لرواية سيرفانتس، صاحب الباع الطويل في المقاومة ومحاربة طواحين الهواء، وهنا يسأل الشاعر: هل ينجو/ إن أدركَ أنَّا أصْلحنا آلتَه/ ورتقنا الأوتارَ الشيرازيةَ/ وانسجمَ الصوتُ/ ويسْطيع الآنَ/ إذا جرب/ أن يمسكَ بالتنهيدةِ تلو الأخرى/ ويصيدَ الأنفاسَ الهابطةَ من الملكوتِ؟/ يمكنُه أن يعزفَ كيف يشاءُ/ فلا شيء هنا يخشاه القلبُ/ لتسقطَ موسيقاه على الدَرَجاتِ... الغرفةُ لايعرفُها إلا شعراءُ تَرَابَادُورَ/ وغيرُ الفُرسانِ المشائِينَ/ ودون كيخوته يحبُّ الرقصَ/ وتأسرُه الأنغامُ.
حتى «دون كيخوته»، لا يغيب عن الديوان، ويخصه الشاعر بقصيدة، يحاول أن يوقظه من النوم، ويدعوه لأن يرتدي درعه وخوذته ليخوض حربه المقدسة: «لَكِنَّ مغامرةً تنمو/ في أحشاءِ الليلِ/ أراه/ وأراك بها في مَدِّ الرؤيةِ/ تفتكُ بالأوغادِ/وتهزمُ جيشَ المَرَدَةِ.. فلتعتمرِ الآن الطِسْتَ مكانَ الخَوذَةِ/ ولتتخذَ غطاءً من آنيةِ البَيْتِ/محلَّ الدِرعِ/ وحاذرْ أن تتفلتَ خطواتُك/ أو تتعثرَ في عتباتِ البابِ/ فتلقى السَحَرةَ/ مدلوقًا فوق الأرضِ/ ويهزأ منك الناسُ/ أمامك شُغُلٌ/ لايقضيه سواك/ فلا تتشاغلْ بالفتيانِ / إذا قذفُوكَ/ وإن تبعوك / وصاحوا: يامجنون.
وعبدالرحمن مقلد، شاعر وصحفي مصري، مواليد 1986، حصل على جائزة الدولة التشجيعية 2018 عن ديوانه «مساكين يعملون في البحر»، وحصل على جائزة هيئة قصور الثقافة عن ديوانه «نشيد للحفاظ على البطء» 2011، وحصل على جائزة المركز الثقافي المصري بباريس، وحصل على جائزة المجلس الأعلى للثقافة.
ونشرت نصوصه في عدد من الصحف والمجلات العربية. واختير ديوانه «مساكين يعملون في البحر» محل دراسة لطلاب الدراسات العليا بكلية دارالعلوم جامعة القاهرة عام 2019.
-----------------
بقلم: مدحت صفوت