25 - 04 - 2024

"شكلكم بقى وحش قوي"

من لطائف مايجري في بر مصر أنه بينما البلد بل والعالم كله تغلي مراجله فوق نيران الحروب والصراعات والأوبئة والأمراض والفقر والعطش،يتحلق بعضنا –كأطفال الزمن القديم– حول حواديت الجدات وأساطير القدماء.

جدات هذه الأيام يخرجن علينا من الشاشات بحكايات شبيهة بحكاية المليم الذي يشتري البيضات العشر والجنيه الذي يسحب إلى الدار قفص طيور عامر. غير أن حكاياهن الجديدة تحدثنا عن المجتمع الذي كان "سبور على الآخر"؛ الزوج ذو روح وملابس رياضية لا تعدو الشورت والفانلة (الكاب لم يكن قد اخترع حينها) وزجاجة البيرة لاتفارق يده كبديل مشروع للمياه المعدنية  في أيامنا هذه. يرتدي الرجل زيه الرسمي هذا ويخرج إلى بلكون البيت يطل بالروح الرياضية ذاتها على الجارات والجيران الذين يحيونه بكل ود وانفتاح وابتسامة رضا.

وصاحبنا هذا ذو أريحية عظيمة إذ تمتد روحه الرياضية لأهل البيت فتخرج الزوجة معه لتحية الجيران من البلكون بزي ملائم لمقتضى الحال يستعرض ماتيسر دون أدنى خوف أو شعور بالحرج. ولما الحرج؟ وهم يعيشون في يوتوبيا الحياة الرياضية حيث السرائر في نقاء الثلج والضمائر في يقظة دائمة والأخلاق على أروع ما يكون لأن التدين دفين في أعمق الأعماق ولايُسمح له بالانكشاف على الأعين.. فهذه مهمة الأكتاف العارية والشعور المنطلقة  والسيقان المتحررة.

يعتصر الهم والألم والصدمة مشاعر جدات هذه الأيام المطلات من الشاشات حين يقارنّ مجتمع الفانلة والفستان العاري والتدين المدفون في الأعماق في زمنهمالجميل،بأزمنة لاحقة تخلى فيها الأشرار والمغيبون عن الروح الرياضية ونبذوا الفانلة والشورت في قسوة وبربرية وتخلف،بل تمادوا فألقوا بالأوشحة على أذرع زوجاتهم العارية وشعورهن المنطلقة. فعل المغيبون ذلك دون أن يدركوا بجهالتهم أن الاحتشام إذا دخل من الباب فسدت الأخلاق وخرج التدين من الأعماق التي قبع فيها، وقفز منتحراً من الشباك أو حمل عصاه مهاجراً عن ذلك البلد الذي يعاف رجاله البيرة وتحتشم نساؤه بكل جرأة.

لندع السخرية جانباً ونسأل بجدية: لماذا يصر هؤلاء المطلون من الشاشات على اعتقادهم بأن الدين والأخلاق لايجتمعان؟ وأن شعائر الدين هي مجرد أفعال مظهرية تخفي وراءها نفوساً معدومة الضمائر منزوعة الأخلاق؟ وعلى أي أساس يحمِّلون الشكل الخارجي للمجتمع تبعات الانهيار الذي طال كل شئ وأطاح بقيم إيجابية طالما استوطنت في النفوس والعقول؟

الإنصاف، ومن قبله المنهج العلمي، يحثنا على دراسة أسباب الانحدار القيمي ولأخلاقي ووضعه في إطار شامل يحيط بالعوامل الثابتة والمتغيرة ولايستأسد على الدين. فحالة الانحدار التي نرتع فيها  لايمكن بحال أن تكون وليدة تغيير فجائي  بل هي فعل تراكمي امتد عبر عقود وتحالفت عليه عوامل سياسية واقتصادية وإحباطات وإخفاقات وأحلام غير مشروعة أو غير ملباة. أما الارتكان للتفسير العشوائي فلا هدف منه إلا وصم الدين بما ليس فيه وتدعيم النظرة الدونية لشعائر الإسلام ومظاهره وقيم الاحتشام التي درج عليها المجتمع منذ القدم.

من الشاشات نفسها يطل علينا حكائو الأساطير بمحاولاتهم الساذجة لإبراز معاني الشجاعة والبسالة والبطولات الفذة، والتدليل على أن مصر قد دخلت عهداً جديداً صارت فيه نداً للقوى العظمى بعد أن أصبح لها -كما قال السادات يوماً – درع وسيف. قد يكون لأساطيرهؤلاء الحكائين ظل من حقيقة، وقد تكون نواياهم طيبة لكنهم لا يولون ما يطرحونه من وقائع الاهتمام الكافي بدراستها وفهمها ووضعها في سياقها دون تهويل، فتكون النتيجة أن يتبرأ من سربوا ظل الحقيقة من مروجي الأساطير استشعاراً للحرج ودرءاً للتبعات.

 أما نحن الذين يحسبوننا أطفالاً متحلقين بانبهارحول حواديت الجدات ومروجي الأساطير فربما حان الوقت أن نقول لهؤلاء: كفاكم استخفافاً.. شكلكم بقى وحش قوي.

مقالات اخرى للكاتب

رؤية خاصة| نورا على طريق الغارمات





اعلان