في دراسته المطولة عن المسرح الإنجليزي والقضايا السياسية اختار الناقد المعروف الدكتور صبري حافظ قضيتي فلسطين والحرب علي العراق، ليقرأ من خلالهما كيف تعامل المسرح البريطاني في العقدين الاخيرين مع القضايا السياسية العربية.
وفي الدراسة التي نشرها العدد الأخير من مجلة "ألف " الصادرة عن قسم الادب المقارن بالجامعة الأمريكية بالقاهرة يذكرنا الدكتور حافظ بالناشطة اليهودية الامريكية راشيل كوري التي اغتالتها جرافة إسرائيلية عندما حاولت منعها من هدم بيت فلسطيني .
في الدراسة يستعرض الكاتب مسرحية "أنا إسمي راشيل" التي أنتجها للمسرح النجم السينمائي البريطاني الراحل آلان باركر، والتي تقدم قصة حياة الناشطة اليهودية الشابة، وكيف تفاعلت مع الحق الفلسطيني وكيف سافرت إلي الأرض المحتلة لدعم الفلسطينين في نضالهم ضد آلة القمع الصهيونية دعمها، وكيف انتهي بها الأمر مغتالة أمام جرافة صهيونية.
يقول حافظ في معرض قراءته لمسرحية " اسمي راشيل "؛ والتي عرضت للمرة الأولي علي مسرح الرويال كورت العريق بلندن في السابع من أبريل من العام ٢٠٠٥ أي بعد عامين فقط علي اغتيال راشيل، وهي مسرحية سياسية توثيقية بكل معني الكلمة، إذ تروي وقائع حدث سياسي صادم قرأ عنه معظم من شاهدوا المسرحية، وهو قتل احدي الجرافات عمدا الناشطة الأمريكية التي لم تكن تتجاوز الثالثة والعشرين من عمرها يوم اغتيالها في قطاع غزة، لأنها كانت تعترض علي هدم بيت فلسطيني وتشريد صاحبه مع زوجته وأطفاله الثلاثة.الجرافة بحكم الوقائع المعروفة لم تكتف بدهس راشيل مرة بل كررت دهسها لتطمئن أنها ماتت.
وعلي الرغم من هذه الجريمة الوحشية، نجحت آلة الدعاية الصهيونية والآلة القضائية الاسرائيلية في تبرئة إسرائيل من الجريمة.
إلا أن معدي المسرحية النجم آلان ريكمان وكاترين فاينر لم يعترفا بالحكم، وقدما راشيل من جديد علي المسرح من خلال يومياتها التي تناوب علي طرحها دراميا أربع ممثلات، كل واحدة منهن تقدم مرحلة من مراحل حياة الناشطة الأمريكية.
ومن العجب أن المسرحية التي لقيت استحسانا جماهيريا ونقديا في انجلترا، فشلت في الحصول علي فرصة للعرض في الولايات المتحدة علي الرغم من جهود آلان ريكمان.
صحيح أن الاعتراضات اليهودية علي عرض المسرحيه لم تتوقف في بريطانيا، إلا أن النجم الانجليزي أصر علي وثيقته الدرامية بالغة الدقة، لإدانة الوحشية الصهيونية بطريقة الدراما التوثيقية.
كشف العرض المسرحي عن شخصية طالبة أمريكية مثالية، كانت تقرض الشعر في الجامعة وتحلم بعالم بلا حروب او مظالم، وقادها إحساسها الإنساني للتعاطف مع الشعب الفلسطيني، فذهبت إلي غزة لتعلن احتجاجها بالجسد علي ما ترتكبه "اسرائيل" من قمع وتشريد للفلسطينيين. ولا يركز العرض التوثيقي علي شخصية راشيل، بل ينقل من مذكراتها وملاحظاتها، التي تم إعدادها دراميا لتناسب عرضا مسرحيا، ما يعاني منه الفلسطينيون تحت وطأة الاحتلال.
أهمية المسرحية أنها تكشف أن الصورة المنقولة للشعب البريطاني عما يجري في فلسطين ليس دقيقا، كما ترويه الآلة الإعلامية الصهيونية والغربية، وأن هناك قصة أخري تتم التعمية عليه،ا وجاءت قصة الناشطة اليهودية لتكشف جانبا منها.
طريق الألم
لا يكتفي صبري حافظ بهذه المسرحية بل يستعرض مسرحية "طريق الالم" التي تستوحي اسمها من قصة السيد المسيح، وتحكي أيضا عن الواقع الفلسطيني تحت الاحتلال. المسرحية كتبها الكاتب المعروف ديفيد هير وقدم فيها رؤيته بصيغة السرد المونولوجي لرحلته إلي طريق الآلام الفلسطيني الجديد لاكتشاف حقيقة مايجري.
وكانت منظمة تدعي "أصدقاء اسرائيل" دعت هير لزيارة الكيان وتحملت كلفة الرحلة، شريطة أن يلقي حديثا عن الثقافة الاسرائيلية التي سيجدها في رحلته فقال لهم: وماذا لو لم تعجبني ثقافتكم؟ قالوا بل ستعجبك، فقرر إلغاء الزيارة، إلا أنه تلقي رسالة أخري من الروائي الامريكي الراحل فيليب روث يدعوه فيها إلي الذهاب لرؤية ما يفعله المستوطنون، وبرر له الدعوة بأن هؤلاء مجانين، وهم بالنسبة لأي كاتب مادة صالحة للطرح، فقال له ديفيد هير: هذا يناسبك كروائي ساخر فرد عليه روث قائلا: ليست لديك فكرة أن هؤلاء الناس مجانين إلى حد أن هناك مادة كافية لنا جميعا.
إلا أن زيارة هير تأخرت عشر سنوات ليقدم بعدها مسرحيته "طريق الآلام" التي لم ينتصر فيها لأي جانب، لكنه علي الأقل قدم صورة أقرب للواقعية، فقد التقي في رحلته الشاعر الفلسطيني الراحل حسين البرغوثي صاحب " سأموت بين اللوز" والتقي السياسي الفلسطيني قليل الكلام حيدر عبد الشافي، ومن خلال هذه المقابلات صاغ مونولوجه المسرحي بشكل أقرب للموضوعية من وجهة نظر بريطانية.
وفي مسرحية "سبعة أطفال يهود" قدمت الكاتبة كاريل تشرشل المولودة في العام ١٩٣٨ عرضها المسرحي عن حرب الرصاص المصبوب أو مجزرة غزة، ودعت الكاتبة إلي جعل عرضها المسرحي مناسبة سياسية، فدعت الجمهور الذي حضر العرض مجانا إلي التبرع لإنقاذ غزة.
وتقوم المسرحية علي سبع لوحات فنية تفضح المقولات التربوية الصهيونية التي يتم نقلها للطفل الاسرائيلي عن الفلسطينيين وتفندها. تبدأ وقائع المسرحية بمشاهد من الاضطهاد النازي لليهود، ثم الرحله الصهيونية إلي فلسطين، وفي كل لوحة من لوحات المسرحية تكشف مرحلة من تاريخ الكيان الصهيوني.
وما إن عرضت المسرحية في فبرايرمن العام ٢٠٠٩، حتي اندلعت ضدها حملة صهيونية تندد بالكاتبة والعرض متهمين إياها بالعداء للسامية ولم يتوقف المهاجمون عند النص الأخير في المسرحية، والذي يقول فيه مستوطن إسرائيلي من اليمين المتطرف أنهم لن يتوقفوا عن قتل الفلسطينيين،حتى يشعروا بالأمان، وانهم لن يكفوا عن العنف حتي يقتلوهم حميعا لأنهم حيوانات تعيش بين الأنقاض والخرائب، وأنهم يشعرون بسعادة، لأن القتلي من الأطفال الفلسطينيين وليسوا من أطفالنا، فيرد الصوت الأخير في العرض: لا. لا تقل لها ذلك، لا تخفهم وقل لها إننا نحبهم.
غزو العراق
وفي القسم الثاني من الدراسة يستعرض الدكتور حافظ موقف المسرح الانجليزي من قضية العراق قائلا إن التعاطي مع قضية فلسطين دراميا كان هدفه إنسانيا أكثر منه وطنيا، لكن قضية العدوان الأمريكي علي العراق فقد تناولها المسرح باعتبارها قضية وطنية علي خلفية التورط البريطاني في غزوالعراق، بحجة امتلاك الأخيرة لأسلحة دمار شامل، وهو ما لم يثبت صحته.
في هذا القسم يستعرض حافظ مسرحية "الأمور تحدث"” للمسرحي المعروف ديفيد هير – الذي قدم "طريق الآلام" عن قضية فلسطين، وقد عرضت "الأمور تحدث" علي خشبة المسرح في العام ٢٠٠٤، وفي هذه المسرحية يتتبع هير خطي مسرحه التوثيقي التحليلي، الذي بدأه بمسرحية "الطريق الدائم "عن خصخصة قطاع السكك الحديدية في بريطانيا، لكنه في "الأمور تحدث" يخرج بقطاره الدرامي إلي العراق، مستخدما العبارة السوقية التي رد بها دونالد رامسفيلد علي سؤال عن ضحايا العدوان الامريكي علي العراق من المدنيين فقال إنها "أمور تحدث" ووظف هير العبارة السوقية ليطرح تساؤلاته عن مدي عدالة تلك الحرب علي العراق ومدي الضروره السياسية التي فرضت علي بريطانيا الانسياق وراء الحملة الأمريكية.
اللافت أن هير قال عن مسرحيته "لقد استخدمت تصريحات المسئولين لتبرير المشاركة كما هي بحذافيرها" أما ما بين السطور والكواليس، فقد لجأ الي مخيلته ليربط الأقوال والأحداث ويدين المشاركة البريطانية في العدوان علي بغداد، مستخدما في عرضه ٥٠ شخصية واقعية لعب أدوارها علي المسرح ١٨ ممثلا خلال ٣ ساعات من الكشف المسرحي لأروقة السياسة البريطانية وقراراتها المغلوطة.
وفي مسرحية "اضرب- اقتنص الكنز – كرر العمليه ثانية" يكشف الكاتب المسرحي ريفنهيل عبر ١٦ مسرحيه قصيرة الأزمة العراقية التي خلفت وراءها مليون قتيل عراقي وخمسة ملايين مشرد في أصقاع الأرض، كما خلفت آلاف الجنود المصابين من البريطانيين والأمريكيين
ويقسم مسرحيته التي تعكس مفهوم الملحمة، فلا تقدم قصص أبطال، بل قصص متورطين مقسمة إلي أربع مسرحيات كبري، تعرض كل مسرحيتين منها في مكان وتقدم إحداها الوضع من الزاوية العراقية، فيما تقدم الثانية الصورة من الزاوية البريطانية
وعبر هذه المسرحيات الأربع الكبرى، ذات الإيقاع القصير يفضح الكاتب الوضع الحقيقي للأزمة في العراق في جبهة القتال وفي الكواليس السياسية بالمجتمع البريطاني لاجئا، في إطار لعبته، الي التناص مع أسماء أعمال فنية ذائعة الصيت، ربما ليلتفت النظر إلي المآسي البريطانية والعراقية، والتي لا تختلف عن تلك المآسي التي استخدمها كعناوين لمسرحياته مثل "الجريمة والعقاب" لديستوفيسكي ،و"الفردوس المفقود" قصيدة جون ميلتون المسرحية الملحمية، و"الحرب والسلام" لـ ليو تولستوي، وغيرها من الأعمال التي تفيد في تنبيه المشاهد إلي استمرار نفس المآسي القديمه بصور عصرية، تورطت فيها السياسة البريطانية علي مسرح سياسي بعيد، هو العراق.
***
المجلة تقدم عددا مهما من الدراسات والموضوعات التي تستحق التوقف عندها طويلا ومن أهم ما قدمته، ذلك الحوار الذي أجرته مع الدكتوره هدي وصفي عن تجربتها مع المسرح باعتباره أداة ثقافية وعن مشوارها في نقد المسرح وتدريسه في الجامعة وإدارته في وزارة الثقافة في تجاربها المتنوعة
كما تقدم المجلة دراسة لنورا أمين، عن فرقة الورشة التي تأسست في العام ١٩٧٨ كأول فرقة مسرحية مستقلة، ودراسة لفرانك برادلي عن تجربته المسرحية في الجامعة الأمريكية بمصر، والتي قدم من خلاله عروضا مسرحية منها "الغابة المجنون" و"خارطة الحمي".. ثلاث رؤى عن الشرق الأوسط.
فيما يكتب مصطفي رياض عن تاريخ "مجلة المسرح" المصرية التي صدرت في العام ١٩٦٤ فيما تقدم ايميلي سيبيلي قراءة جديدة في مسرحية "الفرافير" ليوسف إدريس، بينما قدم أسعد الصالح دراسة عن مسرح سعد الله ونوس.
-------------------------
بقلم - مها شهبة