09 - 06 - 2025

ما حدث في الدورالعشرين!.. قصة قصيرة لـ رضوى فرغلي

ما حدث في الدورالعشرين!.. قصة قصيرة لـ رضوى فرغلي

بدأ وقت راحتي، وعلىّ الانتهاء من وجبة الغذاء سريعاً قبل أن أعود إلى عملي، فالتعامل مع مسئولة "موسوسةمُرهق فعلاً، بمجرد أن تلاحظ غيابي، ترسل "العصفورةلتتأكد من وجودي كأن لا أحد يعمل في هذا البنك غيريمنذ سبع سنوات وهي تخبرنا أنها العام القادم ستتقاعد وترتاح من "قرف الشغل والموظفين"، لا هي ارتاحت ولا ارتحنا من العقوبات المتكررةسمعت الزملاء يتهامسون أكثر من مرةمسكينة، تجاوزت الخمسين لا زوج ولا أولاد!

رن هاتفي برقم غريب، قلت لنفسي: "مين اللي ظابط اتصاله على مواعيدي"!

* ألو

- أهلاً يا افندم، معاكي "فؤاد" من شركة (......) للسياحة والتسويق العقاري، رقم حضرتك كسب معانا أربع هدايا ويشرفنا .....

قاطعته لأعتذر كعادتي عن مثل هذه العروض، لكنه أصر بشكل مهذب أن يُكمل عرضه الذي لن يلزمني بأي اتفاقدار في ذهني أن حاله من حالي "مصري متغرّب"ويحاول فقط أن يؤدي عملهإضافة إلى أنني أحب اسم "فؤاد" جداً لدرجة أنني سميتُ به أحد أولادي الأربعة رغم اعتراض "حماتي" عليه

* من أين حصلت على رقمي؟

أكد لي أنه يطلب أرقاماً عشوائية!

اتفضل قول، لكن باختصار من فضلك.

يشرفنا يا افندم إنك تقبلي دعوتنا لحضور حفل كبير بمقر الشركة، ولحضرتك أربع هدايا فورية: "حرّف دهب"، ثلاث ليالي في واحدة من أربع دول (ماليزيا، تركيا، تايلاند، دبي)، خصم 50% على بعض محلات الملابس والذهب، وكوبونات مجانية لبعض عيادات الأسنان والتجميل.

  • وما المقابل؟

الهدايا مجرد دعاية للشركة، فقط شرفينا حضرتك والزوج.

  • لماذا الزوج؟

-لأن العرض للعائلات فقط يا افندم.

علاقتي بزوجي في هذه الفترة ليست في أحسن أحوالهافرغم ما نتحدث عنه من حُبٍ دام رُبع قرن تقريباً، إلا أن تراكم سوء الفهم واختلاف طباعنا، يهزمان هذا الحب أحياناً فنتحول إلى مجرد شريكين في السكن، نختبئ وراء ثرثرة الأولاد وقضاء أمور الحياة المشتركةالحقيقة وجدتها فرصة لكسر الصمت،أخبرته أننا سندهب إلى "مشوارربما يكون لطيفاً وبسببه نكسب ثلاث ليال في البلد الذي فكرنا كثيراً في زيارته، تايلاند.. وربما يكون خدعة فأعزمه على العشاء ونكمل سهرتنا في أي مكان يختارهوافق بسرعة كأنه ينتظر دعوتي:

- السهر مع امرأة جميلة زيك، أكبر مكسب.

في الموعد المحدد كنا أمام برج شاهق بواجهة فخمة،المدخل مزيج من الرخام وزجاج أزرق مموّجالإضاءة الهادئة والمرايا الموزعة بتناسق على الجدران تُشيع جواً رومانسياً حفزني لالتقاط صورة لانعكاسنا في المرآة. خصوصاً أن زوجي متأنق الليلة بزيادة على غير عادته!

في مقر الشركة، خلف مكتب نصف دائري كبير تجلس فتاتان بـ "حِجاب مودرنيظهر من تحته نصف الشعر تقريباًبدا لي أنهما أختين من تشابه الماكياج الصارخ والرموش الصناعية والشفاه المنفوخة! أعطتني إحداهما استمارة بيانات، كتبت اسمي الأول فقط بشكل حقيقي وبعض المعلومات فبركتها، وتركت البعض الآخر فارغاً.

أشارت لي زميلتها

  • اتفضلوا، أستاذ "طارقجاي حالاً.

سألتها عن فؤاد الذي اتصل بي بالأمس فقالت أنه غير موجود الآنبعد دقائق جاء شاب أسمر بعينين ضيقتين، طويل وسمين نوعاً ما، يشبه "البودي جارد".أخذ الاستمارة ورحب بنا:

  • شرفتونا يا افندم، بس حضرتك مش كاتبة مكان عملك والمرتب، تقريباً سايبة الورقة فاضية!

-معلش، مش شايفاها مهمة.

كان واضحاًعلى ملامحه أن إجابتي لم ترق له.اصطحبنا إلى غرفة كبيرة بها ست طاولات عليها مفارش بيضاء وفازة ورد صغيرة وكراسي مختلفة العددلا يوجد أحد باستثناء أُسرة واحدة تبدو بسيطة، زوج وزوجته وثلاثة أطفال أصغرهم في عمر العامين تقريباًجلسنا في آخر الغرفة بأقصى اليمين، اخترت أنا الكرسي الملاصق للجدار الزجاجي الذي يطل على الشارع الرئيسي من الدور العشرين واعتبرتها "قعدة لطيفة" بغض النظر عن العرض.

طلبتُ عصير برتقال وطلب زوجي فنجان قهوة. هممت بالتعليق أن القهوة مساءً تزيد من الأرق المزمن لديه، لكنني تذكرت قراري بالتوقف عن أي ملاحظات كانت دائماً عديمة الفائدة.

بدأ طارق متحمساً:

  • حضرتك بتشتغل فين يا افندم؟ 

نسي زوجي ما اتفقنا عليه من عدم إعطاء أي معلومات خاصة

-أنا طبيب في مستشفى "السماح"، هنا جنبكم

وضح لنا طارق نظام "الصك العقاريالذي سيمكننا من السفر إلى عشرات الدول بمبلغ زهيد مقارنة بأي نظام غيره:

  • أكيد حضرتك سافرتِ لأي دولة قبل كدة.كم يكلفكِ الأسبوع الواحد؟

ابتسمت:
-
الأحسن ندخل في الموضوع بعد إذنك.

  • طيب وحضرتك يا دكتوربالمناسبة عندكم كام طفل؟ 

من تحت الطاولة ضغطتُ بسرعة على قدم زوجي حتى لا يُستدرَج لأي تفاصيل.استخدم طارق الآلة الحاسبة وكُتيب صور ليشرح لنا أن شاليها بمساحة 93 متر مثلاً في مرسى علم سيكلفنا في الظروف العادية حوالي (13 ألف) دولاراً، بينما في حال تعاقدنا على عرض الـVIPالمتاح الليلة فقط، فسنكون محظوظين جداً لأننا سنحصل عليه بحوالي (8 آلاف) دولاراً فقط، يمكن أن ندفعهم كاش أو بمقدم حجز(4 آلاف) دولاراً والباقي أقساط لمدة (30 شهراً). إضافة إلى ذلك ستقدم الشركة خصم على تذاكر السفر من (5 : 20%) لأسرة مكونة من فردين وأطفال تحت سن 12 سنة

قاطعته قبل أن يُسهب في تفاصيل لا تعنيني

  • تقصد حضرتك إني كده هاشتري شاليه في مرسى علم؟
    حضرتك يا افندم بتشتري أسابيع سواء في الشاليه ده أو في قرية أخرى تابعة لشركتنا في شرم الشيخ، ويمكنك استبدالها في أماكن تانية خارج مصر.
  • يعني نفس نظام "التايم شير"!

عقد حاجبيه، يبدو أن المقارنة أزعجته فربما سمعها كثيراً من غيري
- لا يا افندم، مختلف لأننا حاولنا أن نتلافى عيوبهواسمحوا لي أترككم مع زميلي "سعيدهو سيوضح لكم تفاصيل أكتر.

نظرت إلى زوجي:

  • ماتيجي ناخدها من قصيرها ونمشي، دا لسة فيها سعيد!
    - استني بس يمكن يكون الموضوع فرصة.

حضر"سعيدبنحافته الملحوظة، وإبتسامته المرتبكة رغم أنه يبذل جهداً ليظهر واثقاً، ذكرني بمدرب التنمية البشرية الذي يتعاقد معه البنك سنوياً لتدريب الموظفين، يحفظ عبارات جاهزة ربما لا يقتنع هو نفسه بهاما فهمته منه أن هذا العرض "اللقطةسوف يمنحنا خمسة أسابيع داخل مصر أوخارجها، ويمكن زيادة المدة على أن يكون الأسبوع الإضافي بحوالي (160 دولاراً) داخل مصر و(230 دولاراً) حول العالم، ويجب علينا أن ندفع للصيانة حوالي (100 دولاراً) سنوياًوحتى نتمتع بكل هذا علينا أن نحصل على عضوية "الانترفال"، وهي شركة مرموقة في أميركا تمكننا من الإقامة في خمسة آلاف منتجع وفندق حول العالمالعضوية مجاناً لثلاث سنوات ثم يتم التجديد بحوالي (150 دولاراً). 

يا الله ما هذا الملل!الأرقام تخرج من فمه كأنها نمل يتجول في دماغيأصلاً بسبب كراهيتي للأرقام اخترت أن أعمل في العلاقات العامة وليس في قسم آخر. كل ما يشغلني الآن هو الهرب من هذه "التدبيسة". أشرت لزوجي أن يطرح عليه الأسئلة التي دونتُها في ورقة:

  • تمام،وهل يحق لنا توريث الشاليه؟
    - طبعاً يا افندممن حقك توريثه بوصيةوتقدرتأجره أو ترحّل الأسابيع أو "تستلف" من رصيد السنوات القادمة.يا افندم العرض مُبهر

ابتسمتُ:

  • ممكن تدينا فرصة دقايق نتشاور فيها؟
    آه .. طبعاً .. طبعاً.
    لفت نظري أن الأسرة الوحيدة التي كانت تجلس بجوارنا، غير موجودةولمحتُ طارق من بعيد يتحرك ببطء مريباتفقت مع زوجي على طرح باقي الأسئلة بوضوح، خصوصاً ما يخص أوراق الشركة، لكنه حاول إقناعي بأننا لن نخسر شيئاً، بالعكس يمكننا أن نساوم معهم على دفع مقدم بسيط وتقريبا نكون قد كسبنا أسبوعاً مجانياً لزيارة تايلاند أو تركيا، لكن شعوري بعدم الارتياح كان مزعجاً.

عاد سعيد يقفز بابتسامته الباردة وقال مباشرة:

  • أنا مبسوط جداً لأن صورتكم في الكاميرا بتقول إنكم خلاص مقتنعين، ودايما أحب أطمن عملائي على كل شيء وأؤكد لهم إن شركتنا مثال للنزاهة وكل ورقها سليم

شعرت في لحظة أن هناك طريقة ما يستمعون بها إلى أحاديث العملاءخصوصاً أنني لاحظت عدم وجود كاميرات في الغرفة كما قال!
- ممكن نشوف أوراق الشركة وأسماء أشخاص تعاقدوا بالفعل على شاليهات معاكم؟

ارتعش القلم قليلاً في يده:

  • دي شركة كبيرة يا افندم ولها اسم في السوق من زمان، صاحب الشركة يعرف "ناس كبيرةفي البلد وزوجته السيدة "سأ"وزيرة سابقة. من المستحيل إنه يغامر باسمه وسمعة الوزيرة.. أسماء المتعاقدين سرية يا افندم، لكن بالمناسبة الأسرة اللي كانت قاعدة هنا، هي الآن في مكتب مدير المبيعات تتعاقد على شاليه مساحته 50 متراً.

تدخل زوجي بسؤال:

- هل للشركة فرع في مصر؟

لا يا افندمهنا الفرع الوحيد وهذه الخدمات نقدمها فقط لأبناء مصر الحبيبة في الخارج.

- تمام، امنحنا يومين، نقرأ العقد ونرد على حضرتك

  • للأسف عرض الـ VIP لليلة فقط، صباحاً ستشتري حضرتك بالسعر العادي!
    - معقول ولا حتى يوم واحد؟
  • للأسف دا نظام شركة يا افندم والله. وهانضطر نأجل الهدايا لحين التعاقد!

حاولت أن أتعامل مع الموقف كـ "لعبة".استأذنت لدخول التواليتوعندما عُدت طلبت منه أن يتركنا للتشاور مرة أخيرةهمستُ لزوجي أنني اخترعت موضوع التواليت لأتأكدإن كانت الأسرة تتعاقد فعلاً في مكتب المديرسألت السكرتيرة فأخبرتني ببلاهة أن وقت العمل انتهى تقريباً من ساعة،ولا أحد هنا الآن غيرنا والأستاذ سعيد، والأسرة "مشيت من بدري"!

كنا قد تجاوزنا الثلاث ساعات لدرجة أن سعيد ظهر عليه التعب لكنه جاهد ليبدو لطيفاً وفكاهياً:

  • على فكرة! لن أسمح بأن تخسروا هذه الفرصة.. نجيب العقد؟
    - الحقيقة إننا مش عاملين حسابنا على أي مبلغ كاش.

هنا بدأ سعيد يُقدم لزوجي تسهيلات غريبة،على عكس صرامته في البداية:

  • ممكن حضرتك تدفع (200 دولار) فقط كإثبات جدية وأنا "هامشّيالموضوع على مسئوليتي.
    - لا أمتلك هذا المبلغ في محفظتي فعلاً
  • خلاص يا افندم خليها (100 دولار). ماقدرش أعمل أكتر من كدة.
    - ولا عشرين دولار للأسف، إحنا آخر الشهر!

الآن الموقف واضح جداً، مجرد مصيدة والأسرة كانت جزءً من "التمثيلية". وقفتُ بحدة:

- لازم نمشي الوقت إتأخر

حاول سعيد أن يُلطّف الجو:

  • طيب أنا هاكسر كل القواعد لأول مرة عشان حضراتكم لأنكم ناس محترمين.

أعطى لزوجي الكارت الخاص به

  • دا رقمي الشخصيسأنتظركم يومين زي ما طلبتم عشان تدبروا المبلغ.
    - وطبعاً الهدايا اللي قالي عليها "فؤادخلاص "فركش"!. لم يُعلق على جملتي كأنه لم يسمعها!

في الأسانسير قطعت ضحكاتنا، قُبلة بطول الـ"عشرين دورا". كأننا ننتقم منهم جميعاًلا أتذكر أين قرأت "يمكن لقُبلة واحدة أن تُحيي علاقة ميتة".

  • بحب شفايفِك 

همس بها وهو يحضنني بقوةخرجنا من المبنى يده على عنقي وأصابعه تمارس شقاوتها المعتادةالليل في هذا الوقت كفيل بأن يخفف تأثير لعبة "الصك" السخيفة ويخفف خصامنا أيضاً، لكن للأسف كان متأخراً لدرجة أن معظم الأماكن مغلقة، ولم نعرف أين نذهب فعدنا إلى البيت.

وفي اليوم التالي دار بيني وبين "عبد اللهزميلي في العمل حديث عن "مغامرةالليلة الماضية، فأخبرني أن زوج أخته تعرض للموقف نفسه من حوالي أربعة أشهر وأن هذه الشركة ملك لرجل أعمال معروف هنا، وهو في الوقت نفسه شريك لمسئول اسمه "يخوّف"! وبالفعل له مشاريع عالمية لكن هذه الشركة بالتحديد عليها مشاكل، وتم إغلاق مقرها القديم من قبل، وربما لذلك اضطروا إلى تغييره بهذا المقر الفخم

قلتُ لنفسي على الأقل "أحرق دمهم". أرسلت على رقم "سعيد":

  • لا يناسبني التعاقد مع شركتكم المريبة، ولا قبول الهدايا حتى لو وصلتني إلى باب بيتي! ثم وضعت الرقم في قائمة "البلوك".

انتهزت فرصة زيارة "حماتيلنا لأترك معها الأولاداتصلت على "الكوافيرلحجز موعد "حمام مغربي"، وتركت لزوجي ورقة ليقرأها فور عودته بعد ساعة من الـ "نوبتشية": 

  • إيه رأيك نتعشى الليلة في مطعم "ألماسبجوار الشركة العقارية إياها، وبالمرة نجرب الأسانسير بتاعهم مرة تانية!
    -------------------
    قصة قصيرة لــ رضوى فرغلي
    من العدد الأسبوعي للمشهد .. مع الباعة