29 - 03 - 2024

التَّنَوُّعُ الثَّقَافِيُّ .. حِكَايَةٌ اِسْمُهَا الإنْسَانِيَّة

التَّنَوُّعُ الثَّقَافِيُّ .. حِكَايَةٌ اِسْمُهَا الإنْسَانِيَّة

لكن اليوم استسلم هذا العقل تدريجياً إلى هيمنة الشعور بالخوف من الآخر ، فالليبرالي على توجس دائم من الإسلاميين أي المحسوبين على تيار الإسلام السياسي وليس الدين الإسلامي ، والأخير ينشدون أروع القصص عن سماحة الإسلام في قبول التعدد الديني والسياسي والاجتماعي ، ويسقطون عند أول سؤال في اختبار التنوع الثقافي ، والحقيقة أن مصر رغم إصابتها بمرض تعدد الهويات إلا أن للوطن وجهاً واحداً لا يقبل تنوعاً أو تمايزاً وهو وجه الوطنية التي تنصر فيها كل الهويات الإقليمية لتخرج لنا طبيعة مصرية واحدة خالصة . وإذا كان من الصعب اختزال الهويات في عقيدة فكرية واحدة ومطلقة كما يزعم البعض ، فإن تجارب الشعوب في تحقيق وحدة لتياراتها وأفكارها قد أتت بنتائج طيبة تبقى ثورتا الخامس والعشرين من يناير والثلاثين من يونيو خير دليل على الاتحاد في التوجه والهدف .

إلا أن مصر التي تسعى اليوم نظاماً سياسياً وحكومة وشعباً في تحقيق وحدة إنمائية لهذا الوطن الجميل ، لا يزال يعاني من سياسات الإقصاء للآخر في أدنى الممارسات اليومية ، ليس فقط على مستوى الممارسة السياسية أو الفكرية بل تجاوز الأمر إلى حد الإقصاء الاجتماعي المرتبط بظروف الإقامة داخل مصر ، فوجدنا ثمة احتقان تجاه بعض الفئات المجتمعية التي ترتبط بمهن يدوية ، كذلك النظرة التي تبدو مستهجنة بعض الشئ تجاه البدو أو القبائل العربية أو أهل صعيد مصر وغيرهم . وفكرة الاستبعاد الاجتماعي هي إقصاء لآدمية الفرد وانتمائه للإنسانية ، وإحياء للنعرات العصبية التي لا حاجة لمصر اليوم بها .

والذين يعضدون لفكرة النعرات الثقافية ويأبون التنوع فإن رائد علم التنوع الاجتماعي تزيفتان تودوروف يخبرنا جميعاً بحقيقة اجتماعية مفادها أن كل فرد متعدد الثقافة ، وأن الإنسان يولد في حضن الثقافة لا أحضان الطبيعة ، ونتفق في ذلك ونؤكد أننا لا نمتلك هوية ثقافية واحدة بل هويات متعددة ، وكم هو محزن أن ينتمي بعض المصريين لا سيما المثقفين منهم إلى حضارة الثقافات الميتة التي هي ثقافات سكونية غير متحركة ولا يكلفون أنفسهم جهد مشقة تعرف الآخر .

وهؤلاء المثقفون هم أكثر الناس احتياجاً إلى إعادة تأهيل وتدريب لقبول التنوع الثقافي ، ليس افتراء محضاً ، لكن الواضح منذ اشتعال ثورة الخامس والعشرين من يناير أن دور المثقفين نحو تعزيز قيم التنوع الثقافي بدا متقاعساً . ليس هذا فحسب ، بل هم يعانون بالفعل من وجود نعرات استعلائية نحو ثقافات الآخر ، وأصبحت القضية الحصرية لديهم هي نحن وهم ، بدلاً من أن يعلوا شعار معاً ، وهو ما يأخذ به رئيس الجمهورية ونظامه السياسي ، لكن يبدو أن المثقفين حقا لا يزالوا يتنعمون في أبراجهم العاجية ملتحفين بأفكار انتهت صلاحيتها بانتهاء طرحهم الفكري .

والغريب أن مصر التي اعترفت بأن الهجرة الداخلية بها أصبحت مشكلة المشكلات التي لا تعرف لحلها سبيلاً ولا تفطن لأسبابها طريقاً لم تتسع أراضيها التي اتسعت لأجساد مواطنيها المهاجرين إلى تقبل عاداتهم وتقاليدهم وأعرافهم وأنماط هوياتهم المتمثلة في اللغة والثقافة وأسلوب الحياة . ولأنها مشكلة المشكلات فإن المهاجرين داخلياً أيضاً أسهموا في وجود حالة الإقصاء تلك إزاءهم لأنهم وجدوا أنفسهم في معركة الطموح والتحدي من أجل نجاح مهني أو علمي أو تحقيق رفاهية اقتصادية وغفلوا عن تصدير ثقافتهم النوعية للبيئات التي احتضنت وجودهم الجسدي . وكان بهم أن يهيئوا المناخ لتقبل ثقافة جديدة متنوعة تعبر عنهم .

وبقي السؤال المطروح هو متى يتحول الوطن إلى حقول فاعلة للمعرفة المتعددة وللتنوع الثقافي ؟ والإجابة ليست مجرد إجراءات يمكن ممارستها من أجل قبول التنوع الثقافي بل كنه السؤال نفسه يضمن لنا إجابة شافية عنه ، فالتنوع هنا في تفاصيل الثقافة لكن القواسم الرئيسة مشتركة ومتوافقة ، ومن هنا وجب العمل على معالم الاشتراك في الثقافات المتعددة ، ولابد من تعزيز لغة إنسانية أصيلة تحمل أخلاقاً سامية ، وإذا كان أبناء هذا الوطن يطمحون في إقامة حضارة مصرية جديدة تحمل أسماءهم في كتاب التاريخ فإن الحضارات تقوم على التواصل والحوار والبحث عن نقاط الاشتراك لا على الصدام والخلاف واختلاق مساحات من النزاع الوهمي . وربما لا ننكر أن هناك محاولات لا ترتقي إلى توصيفها بالتجارب حول إقامة مشروعات تختزل وتقصي الآخر ، وهذه المحاولات هي بالفعل أفخاخ وشراك يمكن إيقاع أكبر عدد ممكن من الشباب فيها لاسيما وأن الغالبية منهم فضل البقاء بعيداً عن الحياة الفكرية والثقافية ، وبعضهم قرر أن يسلم نفسه وعقله جملة وتفصيلاً لتيارات لم ترحم براءتهم الفكرية ولم تعي إلى احتياجاتهم الثقافية فمنهم من تحول إلى متطرف مستهجن ، ومنهم من استسلم لفوضى اللامبالاة وانعدام الفعالية الوطنية .

وعظمة أية ثقافة تكمن في انفتاحها وقدرتها على تأصيل مفهوم الحوار والنقد الذاتي في مسيرتها ، ولكي تكون أكثر إنسانية فعليك أن تصبح داعياً قبل أن تكون قاضياً ، بمعنى أن فكرة إقصاء الآخر والحكم عليه بالتهميش والاستبعاد ، ودور المدرسة جاء وقته في تعزيز التنوع الثقافي لدى أبنائنا الطلاب ، وعلي القائمين على أمر التعليم الرسمي في مصر أن يدركوا ولو لمرة أخيرة أهمية المدرسة في التربية والتعليم وأن من أحد أدوارها تكوين قاعدة ثقافية مشتركة ومجموعة من المعارف التي تعزز وجود إنسان سوي بغير أنماط ثقافية معقدة . إن المدرسة التي أصبحت اليوم ليست أكثر من مبنى خرساني مهجور من المعرفة والثقافة والذوق وباتت مسرحاً للابتذال في اللفظ والفعل جاء وقتها الآني في تنفيذ خارطة طريق ثقافية تحافظ على مقومات الوطن الثقافية من ناحية ، ومن ناحية أخرى تقدم للثقافات النوعية الضاربة بطول مصر وعرضها .

وإذا أردت أن تبحث عن ملامح التنوع الثقافي الخلاقي مع الاحتفاظ بسمات للهوية فلا تعبأ بالتنقيب والتفتيش عن أمكنة متتعدة ، بل عليك أن تذهب مباشرة نحو الجنوب ، هذا الجنوب الذي يعد بقعة سحرية في جغرافيا الشعوب والدول ، لأنه المقام العمراني والجغرافي الوحيد الذي يصر على عدم الدخول في معركة البقاء التاريخي ، لا لقصور أو عجز ، بل لأنه بالفعل يغرد خارج السرب ، ويغني منفرداً خارج السياق .

والمستقرئ لتاريخ ثقافة جنوب مصر على سبيل المثال يفطن إلى حقيقة مهمة ، وهي أن الجنوب منذ ولادته على أرض الأوطان وهو في حفاظ أزلي للهوية ، ليس فقط لهويته الثقافية المتفردة ، بل لطبيعة الوطن ذاته ، لذلك نجد ثمة رهان سياسي وثقافي من النظم السياسية الحاكمة على أولئك القاطنين بالجنوب . مع التأكيد على أن الجنوبيين لم يقترفوا جريمة إقصاء الآخر غير المنتمي لثقافتهم ، وفي هذا الجنوب نجد أركان ومقومات الثقافة متجسدة فعلياً بغير تنظيرات أو طروحات مكرورة ومملة ، فاللغة تجد مهاداً خصباً لها بغير تصحيف أو تحريف ، والموسيقى كجزء من الهوية الجنوبية نجدها تحتفظ بطبيعتها التي تبعد تمام البعد عن الصخب والضجيج وهي متلازمة مع أنماط الحياة السائدة هناك . وكذلك الملامح الثابتة التي لم تعبأ بهوس الاستلاب نحو التغريب كالمأكل والمشرب ، ولعل كلمة السر في هذا كله هو تقديس الموروث ، وفي نفس الوقت حرصت على قبول الآخر بثقافته ولغته وأسلوب حياته بغير إقصاء أو استبعاد اجتماعي ، إذن مصر قادرة على تحقيق أعلى درجات التنوع الثقافي .

ويعد الملمح الأبرز في ثقافة الجنوب التسامح ، والتسامح في الجنوب ثقافة ولغة وموسيقى وملابس سمحة ، لكن المعالجة الرسمية لتلك الملامح باتت مكرورة وباهتة تمثلت في المسابقات الثقافية عن هذا الجزء الجغرافي ، أو تصوير المطربين لأغنياتهم في مناطق النوبة ، أو التقاط بعض المشاهد التمثيلية بها ، الجنوب ليس بحاجة إلى تعاطف بقدر ما هو بحاجة إلى مزيد من مساحات للتسامح والاعتراف الرسمي بثقافاته وهويته ، وهذا الأمر ينطبق تماما على الثقافات الساحلية وبدو سيناء وعرب الصحراء الغربية .

 

مقالات اخرى للكاتب

قَهْوَة بَلَدِي .. التَّعْلِيْمُ حِينَمَا يَبْكِي حَالَهُ !





اعلان