23 - 07 - 2025

سهى زكي تبوح للأرصفة بوجع السنين

سهى زكي تبوح للأرصفة بوجع السنين

نجحت في رسم بيئة اجتماعية لقاع المجتمع القاهري، بكل مساوئه وبجرأة تحسد عليها
"سنين ومرت" أنضج روايات سهى زكي، وأكثرها امتلاكًا لأدوات الكتابة ومهارات الكاتبة
-" امرأة وحيدة تبني عشًا فيه طفلة في غياب رجل، وإن كانت تظهر صور خافتة لرجال ترفضهم بسرعة باكتشافها لعدم قدرتهم على التماهي معها"
- "يكفي السيد حزن أنها صاحبته، وفضلته على الجميع، فخور هو بها لذلك سينفذ طلبها اللئيم، ويتركها تنعم بالحياة قدر الإمكان!"
- " تمكنت الكاتبة من تقديم صورة تربط بين عدم الاشباع الجنسي، والوقوع في شرك التعدد الرجالي عند الجماعات الدينية باعتبارها المتعة الوحيدة المتاحة التي تلخص الحياة"
- "س" تبحث عن رجل طبيعي ترتبط به وأن يكون هذا الحبيب رومانسيًا مثل الشاعر الذي انتهى به الحال معلقًا على عمود، وفي يده علم بميدان التحرير"
- " تمارس الفرجة على الحياة حتى وهي منخرطة بها، تعيشها بدون أي محاولة لتغيرها كأنها تجلس في صالة المسرح" 

أتابع منذ فترة طويلة كتابات الأجيال الشابة، أسعد بطاقة الأمل الموجودة في أعمالهم على عكس ما يبدو في الظاهر من كتاباتهم عن خيبة الأمل والرجاء والهم اليومي، ومن صعوبة الحياة، فما يعكسه الشباب داخل نصوصهم من طموح متأجج ورغبات متفجرة وأحلام، وما تتضمنه من شحنة الحب للحياة ذاتها تفوق ادراكهم لمعناها، ربما بسبب اختلاطها بنغمات اليأس المعزوفة خلال هذه النصوص. 

   لفتت الكاتبة سهى زكي انتباهي بعد قراءة مجموعتها القصصية الأولى بوح الأرصفة وكانت قد صدرت في عمل مشترك بالتعاون مع اثنين من الكتاب هما: زوجها الكاتب الراحل محمد حسين بكر، والكاتب محمد رفيع عام 2004، ثم لاحظت نشاطها الثقافي والأدبي المتميز، بصدور مجموعتها الثانية المنفردة "كان عندي طير"، والتي خرجت فيها عن نمط كتابة القصة القصيرة السائد، ورصدت فيها محاولات بعض البشر لإيجاد مساحة من السعادة، والتحقق في عالم شديد التعصب والعنف والنبذ. وأيضًا إصدار مدونتها التي كانت تكتب فيها نصوصًا جذبتني للغتها المقتصدة البليغة التي وضعتها في صف أهم كتاب جيلها من ناحية، ولجرأتها في كثير من الأحيان، ولنشاطها الثقافي كصحفية وكاتبة متفاعلة مع الإنتاج الإبداعي بوجه عام من ناحية ثانية. 

ارتبكت سهى زكي بوفاة زوجها الشاب الموهوب فجأة. إذ تركها تواجه الحياة وحيدة مع طفلة رضيعة، وهو ما انعكس على الفور على أعمالها، خاصة المدونة التي كانت تكتب فيها مشاعرها بشكل يومي تقريبًا، تبلورت بعد عدة سنوات في كتاب مهم لها هو "وجع الأغاني" وصدر عن هذه المدونة أيضًا "كتاب الساحرة الشريرة" وسوف أعود إليهما فيما بعد.

في عام 2009 أصدرت الكاتبة رواية بعنوان: "جروح الأصابع الطويلة"، تصف فيها رحلة صعود كاتب فقير طموح يتخطى إمكاناته البسيطة، وبيئته القاهرة لمن هم مثله، ليتعلم دون إخوته ويصعد السلم الاجتماعي ليصبح كاتبًا ومؤثرًا وفنانًا، يترصده المرض كمعادل موضوعي لحالة التشوه الاجتماعي التي عاش فيها، فيستسلم له في النهاية مثل كل أبطال الأساطير الذين لا يعيشون طويلاً ليجنوا ثمرة كفاحهم، وليعيش في الذاكرة ويطبع أعمالها بحزن وصفته في إحدى قصصها قائلة: تستطيع أن ترى حفريات الحزن على  ملامح من حولها، وينمو مع أحلامهم عشب شيطاني عظيم، يقرر ببراعة أن ينزع الملابس الداخلية للبشر، ليمشوا على حائط الزمن الواقف منذ سنين، لم تصبه عوامل تعرية، واقف كأنه الموت يدفع الجميع إلى الركض نحوه .

تأملت ما كتبته سهى في روايتها هذه فوجدت حالة من الغضب الأعمى صبت على رأس أم بطلها عمر، باعتبارها الشيطان الرجيم المتسبب في كل الشرور التي حاقت به، بلغة حوار سوقية على لسان هذه الأم حتى أنني شعرت في لحظة أن هذا الغضب أخرج الشخصية عن إطارها ومعقوليتها، على الرغم من نجاح الكاتبة في رسم بيئة اجتماعية لقاع المجتمع القاهري، بكل مساوئه، وبجرأة تحسد عليها. كان الغرض بالطبع هو صعود شخصية بطلها عمر في مواجهة هذه الشخصيات المنحطة على المستوى الإنساني والاجتماعي والسياسي أيضًا.

ثم جاءت صفحات قليلة من الرواية تحكي ما جرى لحبيبة عمر بلغة رفيعة وكتابة متأنية في محاولة أخيرة لإنقاذ الرواية. استعادت فيها الكاتبة قدرتها الفنية وإدارة هذا الجزء ببراعة لم تكن كافية، ومع هذا انتظرت أن تخفت ثم تتلاشى هذه الثورة على الحياة وأن تستجمع الكاتبة رباط جأشها لمواجهتها ومواجهة فنها وقد كان، بإصدارها رواية فاطمة.

 الغريب أن عام 2009 كان أكثر الأعوام ازدهارًا في نشر أعمال سهى زكي إذ أصدرت فيها ثلاثة أعمال دفعة واحدة، فجاءت نصوصها "وجع الأغاني في يوميات الوحدة لأميرة الحكايات" لتحقق نبوءتي لها بامتلاك أعمالها لخصوصية فنية عالية المستوى. 

الوحدة هي بطل هذا العمل، الذي تحاول الشخوص الهروب منه ومن رفيقه الأبدي: السيد حزن. تقول في قصة البار "يكفي السيد حزن أنها صاحبته، وفضلته على الجميع، فخور هو بها لذلك سينفذ طلبها اللئيم، ويتركها تنعم بالحياة قدر الإمكان، بل وسيساعدها بإبعاد من هم أكثر حزنًا منها عنها فيكفي هو رفيقًا دائمًا. في نص آخر تكون الوحدة بالطبع هي رفيق المرأة التي تضاجع نفسها، وفي نص آخر تتساءل عمن أجبر على اختيار الوحدة وبالطبع تجزم أن لا أحد يعرف الإجابة، لأنها تحلم بالطيران مع محلق مثلها بلا أجنحة فتصنع من جسدها وجسده جناحين كبيرين فتتزن وتسعد بالرعشة الطفولية المختلطة بالخوف من السقوط أو الصعود لأعلى. وفي قصة أخرى ترى البطلة نفسها تسير في طريق طويل لا نهاية له، على جانبيه أشجار عجوز مورقة بشكل ينفي عجزها، أراني أعجز عن التوقف للحظة كي أرافق أحدًا في مشواري.

من هذه النصوص وتحديدًا من نص يوميات الوحدة ستخرج لسهى زكي رواية تالية بعد عدة أعمال في عام 2015 ستسميها سنين ومرت، وكأن هذه القصة هي باترون أو تخطيط مصغر للرواية بحذافيرها، لم تغير فيها مساراتها ولم تعدل فيها أفكار فرضها نمو الزمن.

في "رؤى الساحرة الشريرة" الصادرة في نفس العام تقدم بورتريهات صحفية مختلفة كثيرًا عما كان يقدمه خيري شلبي في بورتريه مجلة الإذاعة والتليفزيون كل أسبوع لسنوات وما قدمه في عدة صحف أيضًا لشخصيات من الوسط الفني والثقافي، وما قدمه كاتب من جيلها هو طارق إمام الذي كتب في مجلة الإذاعة أيضًا بورتريه مكثفًا في مساحة محدودة لشخصيات لامعة من الأدباء متابعة منه لأعمالهم. ترسم سهى زكي بقلبها فهو في الأساس بورتريه عاطفي لشخصيات تعرفهم معرفة حقيقية، تجالسهم وتحاورهم في محاولة للوصول لروحهم ورسم صورة لآمالها لهم، متبعة حسها وحده فتكون الساحرة ليست شريرة على الإطلاق بل ساحرة محبة لضيوفها على الورق. من بين من تسحرهم أساتذتها، وأصحابها وزملائها في ستة فصول. وهي كتابة أدبية بكل المقاييس يمكن أن توضع تحت عنوان نصوص، وحتى بورتريه. 

سنين ومرت هي أنضج روايات سهى زكي، وأكثرها امتلاكًا لأدوات الكتابة ومهارات الكاتبة، لهذا أتوقف عندها بقليل من التفاصيل. قدمتها قائلة إنها من وحي حياة السيدة "س" صفحات ممزقة من دفتر قديم لرسومات الفنجان لامرأة كشفت الحجاب عن كل حجاب. البطلة "س" تهيمن كراوية على معظم المقاطع، وتسمح لعدد قليل من الشخصيات أن تتحدث إلى القارئ مباشرة. تحكي سيرة حياتها المقسمة إلى مراحل حاولت أن أجد علاقة بينها كصفحات مقتطعة من الدفتر فلم أجد إلا كونها معبرة عن الطفولة والمراهقة والشباب ثم النضج. لا يوجد تخطيط دال على الأرقام مطلقًا، اختيارات عشوائية إذن.

تميز "س" وجهة نظر واضحة ومتماسكة في الحياة وقوة داخلية تجعلها تتخطى الصعاب بقوة، امرأة وحيدة تبني عشًا فيه طفلة في غياب رجل، وإن كانت تظهر صور خافتة لرجال ترفضهم بسرعة باكتشافها لعدم قدرتهم على التماهي معها، وانكشاف خديعة ما يقدمونه لها من أوهام عن أنفسهم.

ترسم الراوية ما تراه مناسبًا من تفاصيل حياة السيدة "س" في تطور مراحلها العمرية دون أن تفصح عن اسمها إلا مرة وحيدة في نهاية الرواية باسم نورا لكنها بالانعكاس في المرآة لصورة من تعاملوا معها تتضح صورتها أكثر فأكثر. وهو ما يفتح الباب أمام إمكانية أن تكون "س" كل امرأة وأي امرأة. تقول الراوية أنها ستقدم لكل منهم الصفحة التي كتبتها في يومياتها عنهم ويبدوا أنها لا تريد في حقيقة الأمر أن تعتقهم أو تطلقهم للحياة فهي لا تستطيع أن تعيش بلا أشباحها في الماضي أو الحاضر وهم الونيس الحقيقي لها، على الرغم من ادعائها بغير ذلك في بداية الرواية، ويظهر التناقض في حوارها مع أمها. تقول الأم:

 نفسي يمشوا من عندك وترتاحي بقى من العفاريت اللي عليك مش هيسيبك أبدا إلا لما تسيبيه

ماما أنا مرتاحة كده قوي مع عفاريتي.

وفي مكان آخر تقول لها: هم أصدقائي يا أمي ظهروا في حياتي مرة أخرى نفس الأصدقاء الذين رأيتهم وحواهم ألبوم عائلتي. يطوفون في هوائي.

استطاعت الكاتبة أن تقدم من خلال عين السيدة "س" شخصيات مكتملة كتبت بمهارة، منها؛ شخصية داليا الصديقة التي تعرضت لتحرش الأب طفلة، وانتهت منتقبة مسجونة في خوفها من المجتمع، وشخصية أم رحاب المحرومة جنسيًا، والمتقلبة بحثًا عن اشباع جنسي لا يتم بين عدد من الرجال،  جعلها تبيع ابنتها لأول طارق، ثم تدفعها للتنقل من رجل إلى آخر احتماءً بظل الحائط، ووقوع أولادها في فخ الفشل كرجال ضعفاء.

شخصية كنت أتمنى الوقوف طويلاً عندها.  وقد تمكنت الكاتبة من تقديم صورة تربط بين عدم الاشباع الجنسي، والوقوع في شرك التعدد الرجالي عند الجماعات الدينية باعتبارها المتعة الوحيدة المتاحة التي تلخص الحياة، وإن لم تسمهم مباشرة بل ظهروا بأفكارهم وجاذبيتهم للنساء غير المتعلمات، وتحكمهم في حياتهم" نموذج شيخ الجامع" على سبيل المثال. نماذج داليا ورحاب، وأم رحاب منطقة لم يكتب عنها جيدًا حتى الآن، خاصة وأنها قدمت شخصيات تتأرجح بين الانفلات في الملابس، والتزمت  على طرفي النقيض لكل شخصية منهن، وهو ما يحدث في الواقع بالفعل.

تتجه شخصيات العمل إلى التطرف بشكل عام كمعادل موضوعي للوجع من الظلم عبر شخصية هالة التي كانت تحلم بتمثيل دور المهرج، فمارست الدور في الحياة، وسقطت في المرض النفسي. هالة، وعالية الصديقة القريبة التي فسرت الراوية علاقتها بها على أنها علاقة حب عذرية مثلية. وهي جرأة تحسب للكاتبة إذ أن الكتابة في هذه المنطقة ضعيفة جدًا على مستوى الآدب العربي باستثناءات قليلة. تأتي على رأسها رواية مسك الغزال لحنان الشيخ والتي كتبت برهافة غير مسبوقة.

وإن كنت أرى أن ما فسرته الراوية أو السيدة "س" عن علاقتها بعلياء غير كاف ليفهم على أنه علاقة مثلية، فالحب الطبيعي بين رجل وامرأة، أو الحب المثلي بشقية الرجالي، والنسائي، يشترط شرطًا جوهريًا غير موجود في هذه العلاقة؛ هو شرط التملك الذي لم توضحه السيدة "س" على الإطلاق. هو الشرط الوحيد الذي يفرق بين الحب في الصداقة، والانجذاب الشخصي الجنسي، لهذا نستطيع أن نطلق على ما كانت تحاوله هالة من مواقعتها أنه انجذاب شاذ ليس بسبب مثليته فحسب ولكن بسبب الإصرار عليه أيضًا، لهذا نستطيع أن نقول إن هالة واقعة في غرام السيدة "س" لكن علياء و "س" خارج هذا الإطار، أو على الأقل لم تستطع "س" أن تقدم لنا ما يدعمه. 

ويكون من الطبيعي أن تظل "س" على الرغم من أزمتها المستمرة كامرأة وحيدة ما زالت تبحث عن رجل طبيعي ترتبط به، حتى وإن بلغت الأربعين وحيدة، ويكون الرجال الذين مروا بها دون أن يحققوا حلم الاكتمال بشروطه التي وضعتها "س" ببراعة للاكتمال بين حبيبين لا يحتاجا لأكثر من حضن طيب لكي يعرفا أنهما وقعا في الحب إلى الأبد.

وأن يكون هذا الحبيب رومانسيًا مثل الشاعر الذي انتهى به الحال معلقًا على عمود، وفي يده علم بميدان التحرير، أو يكون فنانًا مثل العازف في ذلك البيت الأزهري الكبير، لكنه يكون قويًا بما يكفي ليقيم حياة متخلصة من أشباح الماضي.

لا تنفي الشخصية الرئيسية في الرواية أهمية أن تجد حبيبًا لها حتى لو ارتدت مضطرة قناع الرجال، ولكنها تضعها في مستوى كون المجتمع كله قادرًا على أن ينشر العدل بين أعضائه، ويكون شيوعيًا ثوريا، ويتحرر فيه الرجال من خوازيق الفقر المزروعة على طريق الحرية في بلد لا يعرف غير الدعارة الشرعية.

السيدة "س" إذن ليست من السيدات الخادرات في مضاجعهن. هي امرأة جرى عليها ما جرى على الرجال المشتبكين مع الحياة تبحث عن الرزق وأربعة جدران، وحبيب تمر بكل ما يتعرض له البشر في هذه الطبقة المتآكلة من محن الازدواج والنفاق والفقر وعدم الاشباع تبحث عن كاس الحب الذي يبقى كسراب مراوغ حتى وهي تفتح دفترًا جديدًا ليومياتها.  وهي مثل الكثير من الرجال تمارس الفرجة على الحياة حتى وهي منخرطة بها، تعيشها بدون أي محاولة لتغيرها كأنها تجلس في صالة المسرح تشاهد نفسها تتحرك فوق الخشبة، فهي سلبية بشكل ما، يائسة رغم الحلم بالتغيير من دون فعل.

 ارتحت لبنية الرواية وللغتها. هي نقلة نوعية في أعمال سهى زكي. انتظر من بعدها الكثير لكاتبة مميزة.
--------------
بقلم هالة البدري