01 - 07 - 2025

الخَــطُّ عَتَبَةٌ نَصِّيِّةٌ لفِكْرِ الحَضَـاراتِ

الخَــطُّ عَتَبَةٌ نَصِّيِّةٌ لفِكْرِ الحَضَـاراتِ

الخطُّ مفتاحُ الحضَارَة، لأنَّه الحافظ للتُّراث والمدوِّن للآلام والآمال التي تعتري الحَضَارَاتِ المختلفةَ من فكر للإنسانِ عبر الزَّمَانِ. والخَطاطُ هو الفنَّانُ الرئيسي بين فناني الكتاب، وحين استعرض الفنان الراحل محمود الهندي في مصر لفكر الفنان سعيد العدوي كان محقاً في أن يوصيني بطباعة هذا المؤلَّف الكبير عن الخطِّ والتَّزاوج بين الخط في فن الطباعة، ولكنَّه لم يكن مدرِكاً لشيء عظيم، وهو أن هذا الخطَّ بالفعل مفتاح الحضارة وعتبةٌ نَصِّـيَّةٌ على فكر الحضارات المتعاقبة، وهو ما سنؤكد عليه في تحليلنا لهذه العتبة وتفسيرنا لها، ذلك أنَّ الحَضَاراتِ الإنسانيةَ الكبرى السَّابقة في تاريخ الشُّعوب قد حملتْ فكراً إنسانياً عظيماً ما زلنا حتى الآن نتنسم عبقه ورائحته نحو الحضارة الفرعونية القديمة، كما في النصوص الفرعونية والبرديات وما حجر رشيد بمفرده إلا عتبة على الخط الفرعوني، وكذلك في الحضارة الإسلامية، والصينية واليابانية، والخَـطُّ كان المُعَبِرَ عن فكر تلك الحضاراتِ بالكتابة مهما اختلفت أشكالها. ففي الحضارة الفرعونية القديمة وجد الفن طريقه بالخط لعرض الحضارة والتعبير عنها، وكان المكان هو الملهم للكتابة، وكان القياس والخط للأرض الزراعية هو الآخر ملهماً للتعبير، أي أنَّ الخطَّ الهندسي والخطوط الأفقية والرأسية لقياس الأرض طريقاً معبِّراً عن التَّاريخ، إذاً الخطُّ عتبةٌ من عتباتِ معرفة المكان، بل والتعبير عن المكان، وكانت عبارة "جيومطريا" تعني "مقياس الأرض" فالهندسةُ الحديثة ما زالتْ بالفعل تحمل هذا المعنى المعبر عن الخط والهندسة، وأن الهندسَةَ الزِّراعيَّةَ للأرض كان مبدؤها رسمةَ الخطِّ لمعرفة الطُّول والعرض، وهو ما ظهر بجلاء في فكر الفراعنة القدماء وما وجد في مقابرهم وعلى الجدران، وكانت مقبرة نفرتاري "قد فرضت تصوراً للمكان خاصاً بالشعوب الزراعية تؤيده الرسوم الموجودة في مقبرة نفرتاري، حيث الانتظام الهندسي للأشكال الحية التي تفقد حريتها ابتغاء الاقتراب من نماذج الهندسة وإدخال التوازي. وحتى رمز الجهات الأربع الأصلية، ألم يوضع على أربعة متوازيات؟" فالخط إذاً مفتاح للحضارة. 

وفيالحضارة الإسلامية نجد الخطَّ قد تطور وفق الحالة المعبِّرة عن حالة العصر وأصبح يعرف بالخطوط الإسلامية، وإذا ما تتبعنا إنتاج الفن الإسلامي في مختلف إنتاجه، نجد أنَّ تلك الخطوطَ قد لعبتْ دوراً عظيماً تشكيلياً، سواءً أكانَ في الجَـصِّ أو حتى الرُّخَامِ، وما يُمكنُ التَّأكيدُ عليه أنَّ الخطوط علاماتٌ بارزة للحضارة الإسلامية، وما سبقها من حضارات. أما الحضارة الصينية فقد أعطت قدراً كبيراً من الفكر للخط كتعبير ذي بعدين تتشابه في ذلك مع الحضارة اليابانية، لذلك فقد أكد الفنان سعيد العدوي أن الخط عند الفنان الصيني والياباني يختلف عن الأمريكي أو الأوروبي؛ حيث يستطيع كل من الياباني والصيني أن يخلقا تتابعات طولية ممتدة من الخطوط ذات المعنى، كما هو الحاصل عند هوكوساي الياباني، ومن هنا نستطيع أنْ نقول: إنَّ الخطَّ علامةٌ فارقة على تاريخ الحضاراتِ، وهو عتبةٌ نَصِّـيَّة لذلك الفكْرِ يستحق أنْ يتوقفَ عنده كلُّ الفنانين والرَّسَامين في الشَّرق كان أم في الغرب.

الخطُّ في العَمَلِ 

الخطُّ ترجمةُ الفِكْرِ، والخَطُّ في العَمَلِ عَتَبَةٌ من العتبات، سواء أكان الخَطُّ المكتوب به العمل بالدَّاخل أم الخَطَّ المدوَّن به العنوان والعناوين الجانبية، ويتطرق الأمر إلى الخّطِّ المرسوم على صفحة الغِلاف، أمَّا الخطُّ داخل العمل فقد يكون سبباً في قراءة العمل أو سبباً في العزوف عن القراءة، بمعنى أنَّ الخَطَّ ووضوحه يجعلان المتلقي يُقبل على القراءة، بينما إذا كان الخَطُّ صغيراً من السَّهل أن يتركه لأنَّ جل الذين يقرؤون في العلوم من أجل الثَّـقافة والمعرفة هم في حاجة إلى تسهيل عملية القراة وليس تصعيبها، فكيف برجلٍ طاعنٍ في السِّن، أو حتى في سن الشَّباب يستطيع أن يقرأ خطًّا على بنط صغير 11 أو 12 بالمقياس المعروف للخطوط، وبالفعل قد واجهتُ هذه المُشكلة، على سبيل المثال رواية "رحلة صعلوك" للكاتب خليل السيد، فعلى الرَّغْمِ أنَّ الكاتبَ معروفٌ إلا إنَ الخطَّ من الصُّعوبةِ بمكان، فإذا قرأتُ صَفْحَةً من العملِ فبالتَّأكيد سأعزف عن الصَّفحات الأخرى، ومن هنا فإنَّ الخَطَّ بل وجمال الخط يعطيان راحة نفسية، لمن يُقبل على القراءةِ. 

"والعملُ الفني هو مجموعة من القيم الشَّكلية التي تتمثل في ( اللون ودرجاته – الملامس المتنوعة - الخطوط المختلفة - الكتلة الفراغ – الظل والنور..) والخّطُّ أحدُ القيم الجوهرية في العمل الفني، وهو بمثابة الهيكل الخرساني بالنسبة للعمارة؛ ولا يستطيع العمل الفني الاستمرار بدونه". 

وتاريخياً نقول: إنَّ الأصول الأولى للكتابةِ عبر الحَضَاراتِ الشَّرقية القديمة كانت بالصِّور، أي أنَّ الصُّورةَ كانت تحلُّ محل الحَرْفِ، كما في الكتابة الفرعونية القديمة على الجُدر وورق البردي، وقد عُرفت الرُّسوماتُ قبل التَّاريخ في إسبانيا، ومن هنا نعرف أنَّ الخَطَّ كان بدايةً بالشَّكل أي يُعرف المعنى من خلال الشَّكل المرسوم، كما كان الحال في الصِّين، وأيضاً الكتابات السومرية من خلال الخطِّ المِسْماري " والخط إذن هو اصطلاح قديم العهد استخدم بصورةٍ عامةٍ في الرَّسم لتوضيح حدود الكتل، وهو يكوِّنُ العُنصر الأساسي في عملية التَّحديد". وكيفَ أنَّ اللغةَ المتصورةَ للخطِّ لا تُعْطِي الأرْضية نفسها للكلماتِ، ذلك أنَّ " فنَّ الكتابةِ أحدُ الوجوهِ البَارزة للخَطِّ، فيه تتضحُ قيمتُه التشكيليةُ الفنيةُ ووظيفته الحية المستمرة عبر الأجيالِ والاستخدامات ومراحل نموه وتطوره، ومن خلال هذا الفنِّ اكتسبَ الخَطُّ سمات وإمكانيات مبتكرة وجديدة لم تكن تتوفر له من قبل". ولا بُـدَّ أنْ نَعْلَمَ أنَّ الخَطَّ قد تطور عبر مراحلِه المُخْتلفة، خاصةً الخَطَ العربي" فقد تطور على يد العرب إلى فنٍ جميلٍ، لذلك حُقَّ أن يكونَ الخَـطُّ عتبةً نَصِّـيَّةً ذات أهميةٍ، فهو السَّبيلُ إلى القراءةِ والمَعْرِفَةِ، وقد أقسم المولى عز وجل بالقلم والكتابة؛ أي الخطُّ في قوله تعالى"ن، والقلم ومايسطرون"، وقد أراد الله سبحانه وتعالى أن يعطينا دروساً في العلم بداية من أمره الإلهي العظيم "اقرأاالذي فتح أبواب العلم والثَّقافة والمعرفة للعالم أجمع، وصولاً إلى الكتابةِ، ومن المعروف أنَّ الكتابةَ بخطٍّ من الخطوط التي نعرفها في الوقتِ الحَاضِرِ، هي المَرْحَلَةُ الثَّانيةُ للإبداعِ، ولا بُدَّ أنْ يكونَ قد سَبَقَها التَّرْتِيْبُ القرآني العظيم في أنَّ القراءةَ أولاً حتى يستطيع المبدع الكتابة، ثم الكتابةِ ثانياً. 

والخَطُّ عند الفنانين الكبارِ كان طريقاً للإبداعِ، كما هو الحال عند بول كلي، وبيكاسو، وخوان ميرو، باعتبار أن الخّطَّ أو رسومات الخّطِّ طريقُ المَجْدِ لهم، وهو عتبةٌ من عتبات النُّصوص التي هي لوحاتهم المختلفة، لقد كان اهتمام بول كلي بالطبيعة فوق الوصف فرسم بخطه الجميل أبدع اللوحات وكانت طريقاً لمعرفة فن هذا الرجل وقد قال: "إنَّ الطَّبيعة متى أحببناها تقودنا إلى الحرِّية" والخط الذي رسم به تلك الطبيعة يقود إلى الحرية، والحرية هي التنفس كما يتنفس الخط، وقد نصح الفنانين قائلاً: "دعهم يشاهدون الطبيعة عن كثب حتى يصبحوا قدر ثرائها وحركتها" لقد انتقل كلياً بالخطِّ باعتباره عتبة نصية لديه إلى امتداد خارجي لمطالب روحه الخلاقة مفصحاً عن مجمل عواطفه وأفكاره، فأصبح مفتاح النَّـصِّ لديه هو الخط الناقل عن الطبيعة، وحُق له أن يكون عتبة عظيمة للوحاته "وبمجرد خطٍّ قاتم للسَّواد، وبأقل ارتباط بالانطباعات البصرية أن يسجل خبرات لم يسبقه إليها أحد مفصحاً عن شخصيته الحقيقية المتحررة".. ومن ثم فالخط المعبر عن الطبيعة يعتبر بمثابة عتبة نقرأ من خلالها لوحات بول كلي التي عبرت بصدق عن الطبيعة. 

ومثله في ذلك مثل الفنانبابلو بيكاسو الفنان المعروف والذي كان الخطُّ لديه معبِّراً عن الخشونة والشراسة فحين يذكر بيكاسو نذكر معه الخط الذي كان بمثابة مفتاح لوحاته المتعددة "وقد ظهر ذلك جلياً في مجموعة دراساته لمصارعة الثيران، وقد استطاع بيكاسو بالخط الواحد النقي البسيط والشديد الحساسية أن يعبّر عنها تعبيراً يتسم بالحركة والحيوية والقوة مستفيداً من فنون الحضارات الكبيرة القديمة كالحضارة المصرية واليونانية والرومانية والصينية واليابانية والهندية". والأمر نفسه استخدم الخط بالحرية ذاتها في الحفر، خاصة بالقلم الرّصاص، وما كان يضاف إلى بيكاسو معرفته الحقيقية بمنجزات الحضارات القديمة التي بلا شك قد استفاد منها استفادة عظيمة، خاصة الحضارات الشرقية، التي ظهرت بجلاء في التدرج اللوني عنده. وثالث هؤلاء الفنانين الذين كان الخَطُّ هو المدخل الرئيسي لأعمالهم الفنية الفنان خوان ميرو فهو من الفريق الذي ينتمي إلى ما بعد السريالية، وقد كان منغمساً فيها منذ البدء، أي أنه سريالي من الدرجة الأولى، وهو الأمر الذي تؤكده أعماله الفنية من الخطوط المتطايره في الفضاء التشكيلي وإعمال الخيال، فينطلق نحو عالمه الخاص من الخط الدال على براءة الطفولة والشجاعة والتلقائية، لذلك نتذكر ما قاله أندريه بريتون حول المعادلة الصعبة التي تربط بين الحلم والحقيقة أو بين الخيال والحلم والحقيقة "فالغريب لديه هو الجميل دائماً وأن الإنسان هو ذلك الحالم النهائي" وتحدث عنه الشاعر الفرنسي ريمون كينو بأن ريمو حين يبدأ في رسم لوحة من لوحاته فإنه ليس ميرو، بل هو الفنان الذي بداخل ميرو، وحين ينتهي منها فإنه يعود إلى شخصية ميرو، معنى ذلك أن الفنان يحيا مع فنه ويترك الواقع حين يحلق في الخيال" والخط هو اللحن الأساسي والعضوي فيتجربةميرو الفنية على الإطلاق. إنه يتجول في حرية وشجاعة منقطعة النظير متمثلاً الأطفال تمام التمثيل. ونستطيع بسهولة ملاحظة أثر الذوق الشرقي في حركة الخط المطلقة دونما قيود كالفن الصيني[..] لذلك فالصُّورة عند ميرو عبارة عن مجموعة من الأبعاد، الخطُّ فيها هو البعد الأول، يليه بقية القيم الفنية الأخرى". 

الخط يمثل الهوية وهو مسألة سيادة

وإذا عدنا إلى الشَّرق فإنَّ الخَـطَّ أصبح يُمثِّل الهُـويةَ للشُّعوب، وهو ما حَدَثَ مع محيي الدين اللَّباد في مجلة "نظر"، وتحت عنوان "الخَطُّ مسألةُ سِيَادَةٍرأينا مقالةً رائعة وجميلة، للردِّ على ما حدث من قبل شركات الإنتاج عن الخطِّ العربي، وكيفَ أنَّ الخَّطَّ العربي يمثِّلُ لنا الهُويةَ والتَّاريخَ يقول: "لا شك أن القضية التي تناولها "اللَّباد" في باب "نظر" هي قضيةٌ غاية في الأهمية؛ فمسألة تشويه الحرف العربي تتجاوز كثيراً حدود مجافاة الذَّوق وتدمير الجماليات، بل هي قضية "هوية" وأن نترك – نحن العرب- لشركات الإنتاج الغربية اختيار المصممين وتحديد شكل أنماط الحروف العربية حسب معرفتها وذوقها هي قضية "تفريط فيالسِّيادة". 

وتنتصرُ مجلة "نظر" للخطِّ العَرَبِي بقولها: "إنَّ الآلةَ والكمبيوتر لم يتمكنا من تنميط انحناءات وتقوسات خط الثلث الجميل ولا رشاقة وانسيابية الخَطِّ الفارسي، ولا بهجة الخطِّ الديواني، ولا قوة خط الرقعة وسهولة مقروئيته". ومِـنْ المَعْرُوْفِ أنَّ الخطَّ العربي اشتُق من الخَّط النَّبطي القديم في القَرْنِ الثَّالث الميلادي، والذي أخذ في الأساس من الخطِّ الآرامي، وهو ما دلَّت عليه الحفرياتُ وانتقلَ الخطُّ إلى الجزيرةِ العَرَبِيَّةِ فأصبح شمال الجزيرة العربية، يتناول الخطَّ العربي، وجنوبها يستخدم الخط الحميري القديم، وقد أدى انتشار الإسلام ووجود كتَّاب الوحي إلى تقوية الخطِّ العربي والمحافظة عليه، وبدأت عملية الإصلاح الأولى للخَطِّ، وهو وضع علامات على الحروف الأخيرة للنطق السَّليم عن طريق النقطِ، ولكنَّ الأمرَ لم يكنْ صحيحاً بالقدرِ الكافي للتَّداخل وتشابه الحروف، وجاء الإصلاح الثَّاني، وهو نظامُ التَّنقيطِ فوق قوالبِ الحُرُوْفِ وتحتها. "ولعلَّ أشهر خطين في الكتابة العربية هما الخَطُّ النَّسخِي الذي كان يُستخدم في نَسْخِ القرآنِ الكَرِيْمِ وكتابة المصاحف، وهذا الخطُّ هو الخط الرَّسمي في مطابع الكُتب العربية. والخط الكوفي الذي كان يُستخدم في الكتابةِ على المباني وشَوَاهِدِ القُبُوْرِ وهو خطٌ مشلع يميل إلى التَّربيع والزوايا".

فالخطُّ علامة من العلامات التي تميز الصُّحف والمَجَلَّات عن بعضها البَعْضِ، حتى بدا واضحاً لمَـنْ لا يقرأ في الأسَاسِ أنَّ هذا النَّمَطَ لمجَلةِ بعينها، وأصبحَ النَّمَطُ هويةَ المَجَلةِ نَفْسِهَا فيعرفُ المتلقي أياً كان، حين يُقدِم على شراء المجلة أنَّها "مجلة" المصور" أو مجلة "آخر ساعة"- على سبيل المثال - من خلال النَـمط" تعرف من النظرة الأولى لصفحةِ من"المُصوِّر" أنَّها "المُصَوْرِ" وليستْ "آخرسَاعة" لاختلافِ الخُطُوْطِ والحُرُوْفِ في المجلتين أصبحنا نخلطُ بين صفحاتِ المجلتين لاستخدامهما الأحْرُفِ نفسها المستوردة وبالإسراف نفسه". 

وهو ما يُسَمَّى بالانتصارِ للخَطِّ أو للهُـويَّةِ كما قيل، ويؤكِّـدُ حامد العويضي أهمية الخطِّ أيضاً من خلال تناوله للحديثِ عَـنْ الأنماطِ الغَرْبِيَّةِ المستخدمة في الحروف العربية، وكيف أنَّها لم تعدْ مجافيةً للحَرْفِ العَرَبِي فَحَسب، بلْ أيضاً تعيد النَّظّرَ في التَّأكِيْدِ على عظمة الخَطِّ العَرَبِي، وكيفَ أنَّ الخَـطَّ العَرَبي يَسْتَمِيْلُ النَّفْسَ، حين يعبِّرُ عَـنْ مكنونِ النَّفْسِ، وهذا ما أكَّـدَ عليه عبدالرحمن الشَّرقاوي في دفاعِه عن الخّطِّ العَرَبِي ضد الأنماطِ الجديدة، وكانَ ذلك في القرن الماضي قبل أنْ توجَدَ تلك الأنماط الكثيرة من أنماط الخط، والتي كان للحاسب الآلي دورٌ فيها، وفي إثرائها. إلا إنَّ الخطَّ العربي ما زال يمثِّلُ تلك الحيويةَ والنضارة للقلم العربي، وهو لا يخفى على أحدٍ، وقد أكَّـدَ أهمية الخطِّ ما ذكره حامد العويضي في أنَّ الفراغَ جزءٌ من شَخْصِيَّةِ الحَرْفِ العربي بمعنى أنَّ الفراغَ نفسَه جزءٌ من الشَّخْصِيَّةِ العَرَبِيَّةِ، لأنَّه جزءٌ من شَخْصِيَّةِ الخَطِّ، والفراغ هنا هو تلك المساحة التي يتركها الحرف بداخله؛ لإكمال شيء آخر، وكأنَّه يشير إلى تلك الثقافة العربية التي نحتاجها وكان الخطُّ ممثلاً لها. ومن ثم وبعد كل ذلك ألا نحتسب الخطَّ وتجويده عتبةً من عتبات النُّصوص، إنَّه بالفعل عتبةٌ مهمةٌ من عتباتِ النَّـصِّ؛ سواء أكان النصُّ سرداً مكتوباً في عمل أدبي، أم علمي، أم في لوحة فنية معبِّرة، ونكاد نجزم مع محمود العدوي بأنَّ الخَـطَّ يتضمنُ تجربةَ أمَّةٍ بأسرها يقول "لهذا أجزم بأنَّ الخط َّ يتضمن تجربة أمة بأسرها، فلا يستطيع إنسانٌ أن يُنكر درجةَ التَّمَيْزِ الواضِحِ لخطِّ فنانٍ صِيْنِيٍّ أو يابانيٍّ أو هنديًّ أو مصريٍّ قديمٍ أو إسْلامِي، وأكثر من هذا إنَّه لا يتشابه اثنان في خطٍ واحدٍ على الإطلاق، وفي هذا دليلٌ على ما للخطِ من قيمة ذاتية تكفي للتَّعْبِيْرِ عن صَاحِبِ الخَطِّ". 

والخطُّ المنحني يعبِّر عن حركة ملتوية، وهو ما يلفتُ الانتباه، خاصة إذا كان في العنوان "والحركة لا يعبر عنها فقط– بالمعنى الواضح للأشياء المرسومة- عن طريق الإشارة المتحركة ( يعني إخضاع الخط للملاحظة التقييمية للعين)، ولكن يعبر عنها - بصورة أكثر جمالاً- بالحصول على حركة ذاتية خاصة بها عن طريق رقص الفرشاة على السَّطح في مرحٍ مستقلٍ تماماً عن أي هدف نفعي". 

ونراه كثيراً في كتابات العناوين والعناوين الجانبية، بمعنى أنَّ الخطوط المنحنية تعطي حياة للكلمات المكتوبة بها، وكأنَّها تنفخ فيها الروح، كما هو في عنوان رواية "الثَّعْلَبُ الأحْمَرُ" فهو مَكْتُوبٌ بخطٍ به انحناءةٌ، وقد بعث الروح في الكتابة، على العكس من عنوان "معجم مصطلحات الدِّراساتِ الإنسانيةِ والفنونِ الجميلة والتشكيلية" فهو مستقيمٌ، ولا تُوجد به التواءاتٌ أو منحنياتٌ، فهو بذلك يُعطي المتلقي المعلومةَ دون أن تحتوي على ما يثير الإنسانَ من مظهر جمالي، قد يكون دافعاً على القراءة، وباعثاً على فتح الصفحات، وطي الغلاف الذي به العنوان، ويصبح ذلك الخَـطُّ طريقاً للتَّعبير عن التغيير، سواءً أكان في العمل نفسه، أم أنَّه يريدُ التغيير في طريقة فهم المقروء، وكيف أنَّ تلك الطريقةَ تُسَاعِدُ على التَّجْدِيْدِ، ويعد الخَـطُّ المنحني من الخطوطِ العظيمة التي لها أبعادها "أما اختلاف الخَطِّ المُنْحَنَي في كونه عظيماً؛ هو في أنه قائمٌ على تصور التَّغيير، ذلك أنَّ المُنْحَني، إنَّما يُرسَمُ بأداةٍ متغيرةِ الاتجاه دائماً عبر الأرضية". 

فالانحناءةُ موجودة في حياتنا في صلواتنا وطبيعتنا؛ ذلك أنَّ الطَّبيعة العَظِيْمَةَ في الأشجار الدالة على قدرة الله نجد فيها الانحناءة، لذلك فإنَّ "هناك أهمية قصوى لتأمل الطبيعة. فالخطُّ المنحني نجده ظاهراً في كثير من الأشياء التي نصادفها في حياتنا اليومية؛ أوراق الأشجار والأزهار والأواني والكتابة والقباب والعقود في المساجد والعمارة الإسلامية". من هنا فإنَّ الانحناءة تدل على الحركة في الخط، والحركة تبعث على التوقف عندها للتأمل وقراءة العمل. وتصبح تلك الانحناءة طريقاً من طرق قراءة العمل؛ لأنَّها سَاعَدَتْ على الحَرَكَةِ والإثارة، فضلاً عن حبِّ الإنسانِ للتَّغيير "وأنواع المنحنيات ومحتواها أو مضمونها من تجربة التَّغيير، يعتبر واحداً من أهم مصادر الحيوية الفنية، وذلك لأنَّها تمدُّ أو تطيل Extend معنى الأشكال Forms المرسومة نحو تخمين التغير داخل بعد الزَّمن، إنَّها رمزيَّةٌ الحياة؛ تتلمسُ معالم الفاكهة، اللحم، المواد العضوية المملوءة بالعصارة والدم، وهي أي المنحنيات قادرةٌ دائماً على الحَرَكَةِ، بعكس اللاعضوي واللاحي". من هنا ومن كل ما تَقدم يؤكِّـدُ أهميةِ الخَطِّ المنحني في الرَّسْمَةِ، وأنه دليل على الرَّشَاقة والحيوية، وأن ذلك يعتبر مدخلاً محموداً للعمل ذاته.

بينما الخَطُّ الجَامِدُ معروفٌ بأنَّه الخطُّ المستقيمُ ذو الاتِّجاه الواحِد شمالاً أو جنوباً فوقاً أو تحتاً "وهو الخَطُّ المستقيمُ؛ المُسَطَّحُ، متساوي الجوانب. يبدو في معظم الرُّسوم الممتازة أنَّ هناك نوعاً من الديالكتيك (الجدل) بين المنحني والمستقيم، حيث المنحنيات تناسب الأجسام الحية والمستقيمات تناسب الصخور والمباني". فالخَطُّ في عنوان "معجم مصطلحات نقد الرِّوايَة" خطٌّ مستقيمٌ، وكأنَّنا بالفِعْلِ إزاءَ مبنى خرساني، وكذلك عنوانُ كتاب "مشكلة العمل القسْري" للدكتور مصطفى يسري فقد كُتبَ بالخَطِّ المستقيم بخطِّ النَّسْخِ "ربما تكمن معظم أهمية الخطِّ المستقيمِ الوظيفية فنياً في كونه محوراً رأسياً أو أفقياً أو مستعرضاً أو كمحورمكسور للدوران لشكل مركزي يجري داخل أعماق الصُّورة وفي النهاية يتلاقى، على أنَّه اتجاهٌ خالصٌ؛ سواءً أكان متضمناً أو مباشراً لحاله". 

وهذا الأمرُ يجرنا لتناول خطٍ هندسيٍّ، هو الخط الكوفي، فهو خط مستقيم في اتجاهاته وهندسته، وهو ما يظهر بجلاء في الزخارف الهندسية" ومن المعروف أنَّ الخطَّ الكوفي أو الهندسي يعطي إحساساً بالاستقرار والثبات معاً، مما يردنا حتماً إلى السكون والاستقرار، ومع ذلك فإن بعض هذه الخطوط ديناميكية ذات اتجاه، وتعطي إحساساً بالحركة الصارمة ذات العزم الأكيد، لأنها تقود النظر داخل المساحة، حيث الأرابيسك الدوار". فالخطُّ الكوفي خطٌ به مُتْعَةٌ وجمال في الاستقامة، فله جماله الرياضي، العقل يستشعره، وتلتقي حدود الهندسة مع الخط الكوفي ليعطيانا محصلةً جمالية لم يسبقْ أن رأيناها، ولعلَّ في تقدم الرياضة عند العرب ما جعل هناك اهتماماً بالخط المستقيم خاصة حين يستخدم ذلك الخط في الزخارف، ولا بد أن نذكر أنَّ أي خط له سيكولوجيته النفسية، وبالخط المستقيم يمكن أن ندخل لنفرق بين الفكر العربي والفكر الروماني، حين استخدم العرب الخط في تقسيم الفراغات وطريقة التعبير عن المنظور والأبعاد، لكل ذلك فإنَّ الخَطَّ المستقيم هو الآخر عتبةٌ نَّصِّيَّةٌ لا يستهان بها، أي أننا ممكن أن نقارن من خلاله بين فكر حضارتين كبيرتين ويصبح هو المدخل للقراءة هنا أو هناك.
------------------------
بقلم: د. عزوز علي إسماعيل


مقالات اخرى للكاتب

الخَــطُّ عَتَبَةٌ نَصِّيِّةٌ لفِكْرِ الحَضَـاراتِ