إذا كَانَ الخَطُّ العَرَبِيُّ مَسْألَةَ سِيَادَةٍ فَإنَّ الحَرْفَ أيْضاً سِيَادةٍ وعزةٍ وكبرياءٍ
لماذا خصَّ الله النَّوْنَ بالذِّكْرِ ولمْ يذْكُرْ حَرْفاً آخرفي تناول الحديث عنْ التعليم؟
الإمامِ القُرْطُبِي ذَكَرَ بأنَّ الحَرْفَ "ص" يَعْنِي أعْرِضْ القرآنَ على عَمَلِك
لفظةَ (ق) فيها معاناةٌ مرتبطةٌ بذلك الحرف الذي يُقلقل القلبَ من مكانِه
الحَرْفُ عَتَـبَةٌ من العَتَبَاتِ النَّصِّـيَّةِ، ولَوْلَا الحَرْفُ ما كتَـبْنَا شَيْئاً، ولا دَخَلْنا النَّـصَّ، فسُبْحَانَ مَـنْ علَّمَ الإنْسَانَ ما لمْ يَعْلَمْ، وسُبْحَانَ مَـنْ كانَ أمْرُهُ مَحْصُوْراً بين حَرْفَيْنِ الكَافِ والنُّونِ، فإذا أرادَ شَيْئاً أنْ يقولَ له كنْ فيكون، وقد قال الرَسُوْلُ مُحَمَّدٌ صَلَّىَ اللهُ عَلِيْهِ وَسَلَّمَ "إِنَّ أَوَّلَ شَيْءٍ خَلَقَهُ اللَّه الْقَلَمُ، ثُمَّ خَلَقَ النُّونَ وَهِيَ الدَّوَاةُ ثُمَّ قَالَ لَهُ اُكْتُبْ قَالَ وَمَا أَكْتُبُ؟ قَالَ اُكْتُبْ مَا يَكُون - أَوْ - مَا هُوَ كَائنَ مِنْ عَمَلٍ أَوْ رِزْقٍ أَوْ أَثَرٍ أَوْ أَجَلٍ فَكَتَبَ ذَلِكَ إِلَى يَوْمَ الْقِيَامَة فَذَلِكَ قَوْلُه: "ن، وَالْقَلَم وَمَا يَسْطُرُونَ" ثُمَّ خَتَمَ عَلَى الْقَلَم فَلَمْ يَتَكَلَّم إِلَى يَوْم الْقِيَامَة ثُمَّ خَلَقَ الْعَقْل وَقَالَ وَعِزَّتِي لِأُكْمِلَنَّك فِيمَنْ أَحْبَبْتُ وَلَأُنْقِصنَّك مِمَّنْ أَبْغَضْتُ ". وكانَ أوَّلُ شَيْءٍ خَلَقَهُ اللهُ الْقَلَمَ، فَهُوَ البِدَايَةُ والعَتَبَةُ الرَّئِيْسِيَّةُ على حَيَاتِنَا وذَوَاتِنَا، وهو ما يَخُطُّ حَسَنَاتِنَا وسَيئَاتِنَا، وهُوَ ما يكتُبُ الأجلَ والرِّزْقَ والعَمَلَ والشَّقَاءَ والسَّعَادَةَ، وهوَ مَا نَقُوْمُ بالإمْسَاكِ بهِ لنَكْتُبَ ضَمَائِرَنَا وحَيَاتِنَا فِي شَيْءٍ مِـنْ الذِّكْرَى، فَكُلُّ ما يَكتِبَهُ الإنْسَانُ مَا هُوَ إلا ذِكْرَى لَهُ، وبقاءٌ لأثَرِهْ أنَّهُ عَاشَ فَتْرَةً مِـنْ هَذِه الحَيَاةِ، وَقَـدْ كرَّمَ اللهُ سُبْحَانَهُ وتَعَالى الْقَلَمَ حِيْنَ قَالَ لَهُ: اكتبْ، فجَعَلَهُ الشَّاهِدَ على أعْمَالِ العِبَادِ، أي أنَّ الله أقسَمَ بهذا القَلَمِ الذي هو الأدَاةُ التِي تُسَطِّرُ مَا يَدُوْرُ بالعَقْلِ، فَهُوَ الوسِيْلةُ التي تُيَسْرُ للإنْسَانِ التَّعْبِيْرَ عَمَّا يَجِيْشُ بِدَاخِلِه، فَيَكْتُبُ الشِّعْرَ والنَّثْرَ، وما يعنُّ له. والقلمُ ما يُعَلَّمُ به، مِصْدَاقاً لقوله تَعَالى، "اقرَأ باسْمِ رَبِّكَ الذِي خَلَقَ، خَلَقَ الإنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ اقرَأ وَرَبُّكَ الأكْرَمُ الذِي عَلَّمَ بالقَلَمِ عَـلَّمَ الإنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ". وللحَرْفِ العَرَبِي دِلَالاتٌ. ولولا ذَلِكَ القلمُ الذي يَخُطُّ الحَرْفَ مَا كَتَبْنَا، ولا تَعَلَّمْنَا ولمْ نَنْسَ الحَيَاةَ الأوْلَى فِي الكُـتَّابِ وحفظ القرآنِ منذُ الصِّغر وتعليم اللغَةِ العَرَبِيَّةِ. كَلُّ ذلك كانَ أسَاسه القَلَم، أي الكتَابَةِ، وهذه الكتَابَةُ تَأتِي بَعْدَ تَعَلُّمِ كيفيِّةِ القِرَاءَةِ ومعرفة الحُرُوفِ وتراكيبها مع أخواتها، المُعْجَمِ، فالقَلَمُ عَتَبَةٌ للكَاتِبِ وعَتَبَةُ للنَّاقِـدِ وعَتَبَةُ للمُتَلَقِّي، فَهُوَ النَّافِذَةُ التي يُدوِّنُ مِـنْ خِلالِها الجميعُ انطِبَاعَاتِهم نَحْوَ الحَيَاةِ، فبالقلمِ والكتَابَةِ والحَرْفِ تُنالُ العُلُوْمُ.
أمَّا إذَا أخْضَعْنَا الحَرْفَ "ن" للإعْجَازِ العِلْمِي في القُرآنِ، فَإنَّ هُنَاكَ دِرَاسَاتٍ علميةً عديدةً حَوْلَ حَرُوْفِ القرآنِ، وعَدَدِ مَجِيْئها في مَوَاضِعِ بِعَيْنِهَا، جُلّ تلك الدِّرَاسَاتِ تُؤكِّـدُ قيمةَ الحَرْفِ فِي الإعْجَازِ القُرآنِي، من هنا نعرف لماذا خصَّ الله النَّوْنَ بالذِّكْرِ ولمْ يذْكُرْ حَرْفاً آخرفي تناول الحديث عنْ التعليم؟ إذاً هناك قيمةٌ عظيمةٌ للحَرْفِ "ن" لأنَّه الدواةُ التي تَحْتَفِظُ بما يُكْتَبُ بِه مِـنْ مِدَادِ، وحين تُذْكَرُ مَادَةُ "حَرف" فقط، فإنَّه "يُرَادُ بها حدَّ الشَّيءِ وحِدَّتَهُ، ومِـنْ ذلك حَرْفُ الشَّيءِ إنَّما حِـدَّتُه". فإذا كانَ العِلْمُ الحَدِيْثُ قدْ أثبتَ أنَّ الذَّرَّةَ كائنٌ مُتحرِّكٌ، فإنَّ الحَرْفَ هو الآخرُ كائنٌ مُتَحَرِّكٌ، لماذا؟ لأنَّ أيَّ بيتٍ كبيراً كانَ أم صغيراً يبدأ منْ أصْغَرِ شَيْءٍ فيه، وهذا الكونُ لا بُـدَّ أنْ يحوي جزءاً من هذا الصَّغِيْرِ الذي انطلق منه؛ أي مِـنْ الذَّرْةِ، وهكذا الأمْرُ في الحَرْفِ؛ لأنَّ أيَّ كلمَةٍ تَحْمِلَ بداخِلِها معنى الحَرْفِ، وإذا كَانَ هناك تَفَاعُلٌ بَيْنَ الذَّرَّاِت لتُكوِّنَ الكَوْنَ، فإنَّ هُنَاكَ تَفَاعُلاً بينَ الحُرُوْفِ لتُكَوِّنَ كَلِمَةً، وهُنَاكَ تَفَاعُلٌ بَيْنَ الكَلِمَاتِ لتُكَوِّنَ جُمْلَةً، وهُنَاكَ تَفَاعُلٌ بَيْنَ الجُمَلِ لِتُكَوِّنَ فِقرَةَ، وهُنَاكَ تَفَاعُلٌ بَيْنَ الفِقرَاتِ لتُكَوِّنَ صَفْحَةً وهُنَاكَ تَفَاعُلٌ بَيْنَ الصَّفَحَاتِ لِتُكَوِّنَ كِتَاباً.. كُلُّ ذَلِكَ انْطِلَاقاً مِنْ الأصْلِ الَّذِيْ هو الْحَـرْفُ، لِذَلِكَ فَلَابُـدَّ مِـنْ الاحْتِفَاءِ بِالْحَرْفِ الَّذِيْ يُعْتَبَرُ أسَاسَ الكِتَابَةِ فهو عتبةٌ من عَتَبَاتِ النُّصُوصِ. والحُرُوْفُ نَفْسُهَا تُحَقِّقُ تَوَازُناً بينَ الدَّالِ والمًدْلُوْلِ وبينَ المَكْتُوْبِ والمَنْطُوْقِ. والحرف فيزيائياً الصُّوْرَةُ البَصَرِيَّةُ للمَسْمُوْعِ، وإذا كَانَ الخَطُّ العَرَبِيُّ مَسْألَةَ سِيَادَةٍكما قلتُ سابقاً، فَإنَّ الحَرْفَ أيْضاً مَسْالَةُ سِيَادةٍوعزةٍ وكبرياءٍ، ولنا في الحُرُوْفِ المقطعة في القرآنِ الكَرَيْمِ الأسوةُ في ذلك، فهي عَتَبَاتٌ على تلك السُّور القُرآنية، وهي دليلٌ يأخذُنَا إلى تفسيرِ النَّـصِّ والعلاقة الرَّابِطَةِ بينَ الحَرْفِ والنَّـصِّ، وهذه الحروف تُؤوَّلُ حسب فهم كلِّ مُفَسِّرٍ لها كما في الحرف "ق" مع بداية سُورَةِ" ق" وهو حرف يخرج من الحلق أي من الأعماق، وإذا ما نظرنا إلى ما بداخل السُّورة، فإنَّه مرتبطٌ بهذا الحَرْفِ، وبتلك المُعَانَاةِ التي تخرج من الحَلْقِ ومن الأعماق فنرى قوله تعالى "ولقد خلقنا الإنسانَ ونَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ به نفسُه " وقوله تعالى" ونحن أقرب إليه من حبل الوريد" وقوله تعالى " إذْ يَتَلَقَّىالمُتَلَّقِيَانِ عن اليمين وعن الشِّمَالِ قعيد " وقوله تعالى "ما يلفظ من قولٍ إلا لديه رقيبٌ عتيدٌ " فهذه الآياتُ الكريماتُ مرتبطةٌ مع بداية السُّورة مع الحرف "ق" ناهيكم عن دلالات التخويف والعذاب، وأنَّ اللفظةَ نفسَها فيها معاناةٌ مرتبطةٌ بالقافِ ذلك الحرف الذي يُقلقل القلبَ من مكانِه، فهو حرف قلقلة، رغم أنه يعني "الجبل"عند جل المفسرين وقال الشاعر:
دقاتُ قلب المرء قائلة له & إن الحياة دقائق وثوان
وفي بداية سُورةِ "ص" نَرَى الحَرْفَ "ص" عَتَبَةً نَصِّـيَّةً عَلَى نَصِّ السُّوْرَةِ، ونَرَى تَفْسِيْراً عَظِيْماً لهُ عنْـدَ الإمامِ القُرْطُبِي، حَيْثُ ذَكَرَ بأنَّ الحَرْفَ "ص" يَعْنِي أعْرِضْ القرآنَ على عَمَلِك، وهنا إشَارةٌ إلى القُرْآنِ كلِّهِ، أي أنَّ الحَرْفَ أصبحَ إشَارَةً إلى النَّـصِّ كلِّه، بِمَعْنَى أنَّ الحَرْفَ نفسَه لهُ دِلَاَلةٌ عَظِيْمَةٌ للدِّخُوْلِ إلى عَالَمِ النَّـصِّ، وهل هناك أفْضَلُ من الدُّخُولِ إلى عالمِ النَّـصِّ المُقدَّسِ، الذي نَزَلَ مِـنْ عِنْدِ اللهِ؟. فالحَرْفُ يُوحِي بالتَّأكيدِ على الخَوْفِ منْ اللهِ الذي سَيُحَاسِبُنا جميعاً؛ لأنَّنَا إذا عَرَضْنَا القُرْآنَ على أعْمَالِنَا فإنَّنَا بلا شَكٍّ سَنَخْشَى عِقَابَ اللهِ، وهذا مما يُقصَدُ مِنْ الحَرْفِ "ص" والله أعلم بمراده، ومَا يُؤَكِّـدُ ذَلِكَ أنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ وتَعَالى أتْبَعَ الحَرْفَ "ص" بِعِبَارِةِ "والقُرآنِ ذي الذِّكْرِ، بلْ الذين كَفَرُوا في عِزَّةٍ وشِقَاقٍ" فالقُرْآنُ فيه ذِكْرٌ للنَّاسِ بأنَّ منْ عَمِلَ صَالحاً فسَيُجْزَى خَيْراً مِـنْ اللهِ، ومَـنْ لمْ يَعْمَلْ صَالحاً فسينالُ جزاءه، وإذا ما أعملنا مَفْهُوْمَ الحرف "ص"، فإنَّنَا لا بُـدَّ وأنْ نَنْظُرَ إلى أعمالنا أينَ هي من القرآنِ ومن التعاليم الربانية، ومن التَّعاليمِ السَّمَاوِيَّةِ المُقَدَّسَةِ، أي فانْظُرْ أينَ عَمَلُكَ مِنْ القُرْآنِ؟، ليس ذلك فَحَسْبُ، بلْ إنَّ قولَه تَعَالى "بل الذين كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وشِقَاق" تَعْنِي أنَّ الذين كَذَّبُوا القُرْآنَ هم منه في عِزَّةٍ وشِقَاقٍ، أي أنَّهم بعيدون عنه، وهم في عِزَّةٍ من ذلك. و"الصَّادُ" نطقاً للحَرْفِ من المُصَادَاةِ أي مُعَارَضَة، بمعنَى عَرَض العَمَلَ الذي نَقُوْمُ بِهِ عَلَى القُرْآنِ الكَرِيْمِ، بمعنَى أدق أعْرِضُ الأعمالَ على القرآنِ، فهل وافقتْ ما قاله الله في القرآنِ أم لا؟. و الحرفُ "ص" أيضاً قَسَمٌ منْ اللهِ سُبْحَانَه وتَعالى تأكيداً على مَا جَاءَ بعدها بأنَّ القرْآنَ الكَرِيْمَ فيه ذِكْرٌ للنَّاسِ وتِبْيَانٌ فمنْ عملَ به فازَ، ومنْ لمْ يعَمَلْ فلا يلومنَّ إلا نفسَه. والشَّاهدُ هنا أنَّ الحَرْفَ "ص" أصْبَحَ عَتَبَةً لدخولِ ومَعْرِفَةِ ما في النَّـصِّ. ويرتَبِطُ ذلك من النَّاحِيَةِ الدِّيْنِيَّةِ أنَّ قِرَاءَةَ حَرْفٍ واحدٍ مِـنْ القُرْآن الكَرِيْمِ، يحصل القارئ على حسنة جراء ذلك، كما قال الرَّسُوْلُ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسَلمَّ: "مَـنْ قَرَأَ حَرْفاً مِـنْ كِتَابِ اللهِ فَلَهُ حَسَنَةٌ والحَسَنَةُ بِعَشْرَةِ أمْثَالِهَا، لا أقُوْلُ "ألم" حَرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف وميم حرف".
وجُلّ العُلَمَاءِ على أنَّ المُنَاسَبَةَ بينَ الفواتحِ والخَوَاتِيْمِ منْ أسْرَارِ الإعجازِ القُرآنِي وقد "فطنَ الكرماني إلى المُنَاسَبةِ بين فاتحةِ السُّورةِ وخاتمتها. قال في سورة ص: بدأها بالذكر، وختمها في قوله" إن هو إلا ذكرٌ للعالمين"[..] وعدَّ الزركشي المناسَبَةَ بين فواتحَ السُّورِ وخواتمِها من أسرارِ القرآن".. وقد قالَ أبو أحيان:" تتبعتُ السُّورَ المطولةَ فوجدتها يناسبُها أواخرها، بحيث لا يكادُ ينخرمُ منها شيءٌ".
وإذا طَرَقْنَا بَابَ الشِّعْرِ العَرَبي العَظِيْمِ سَنَتَعَرَفُ أيضاً قِيْمَةَ الحَرْفِ؛ لأنَّ هناك قَصَائِدَ عَظِيْمَةً عديدةً لمْ تُعْرَفْ إلا بالحَرْفِ، وهو الحَرْفُ الذي تنتهي به القَصِيْدَةُ "القافية" ليصبحَ هذا الحَرْفُ عَتَبَةً دالةً على القَصِيْدَةِ، حيثُ لم يكنْ هناك عنوانٌ للقصيدة، وكانَتْ تُعرَفُ القَصِيْدَةُ بالحَرْفِ فقط، وهذا إنْ دلَّ فإنَّمَا يدلُّ على أنَّ الحَرْفَ مِفْتَاحٌ للقَصِيدةِ، وعَتَبَةٌ نَصِّيَّةٌ مُهِمَّةٌ، كما في القصيدة "الدَّالية" لعلي بن الجَهْمِ التي تَنْتَهي بِحَرفِ الدَّالِ، كما في "اللامية" للشَّنفَرِي، واللامية لكعبٍ بن زُهيْر، واللامية لابن تيمية، والسِّينية للبحتري، والرَّائية لأبي تمام، وعلى ذكر ذلك فإنَّ عنوانَ القصائدِ لم يُعْرَفْ تَقرِيْباً إلا مع المَدْرَسَةِ الرُّومانسية. ومن تلك القَصَائِدِ الرَّائعة، التي عُرفتْ بالحَرْفِ الأخيرِ لها، قصِيْدةُ "نونيةابن زيدون"، التي قالهَا في ولادة بنتِ المُسْتَكفِي، ولم يكن يكتمل لنا الظرف منذُ الصِّغَرِ إلا بحفظها، والتباري بها فيما بيننا، يقول ابن زيدون في أول تلك القصيدة الجميلة:
أَضْحَى التَّنَائِي بَدِيْـلاً مِـنْ تَدانِيْنـــاوَنَابَ عَـنْ طِيْـبِ لُقْيَانَـا تَجَافِيْنَــا
ألا وقد حانَ صُبـح البَيْـنِ صَبَّحنــا حِيـنٌ فقـام بنـا للحِــــيـن ناعِينــا
مَـن مُبلـغ المُبْلِسينـا بانتزاحِهــــــمحُزنًا مـع الدهـر لا يَبلـى ويُبلينـا
أنَّ الزمانَ الـذي مـا زال يُضحكنـاأنسًـــــا بقربهـم قـد عـاد يُبكيـنـا
وتأكيداً عَلَى دَوْرِ الحَرْفِ في أنَّهُ عَتَبَةٌ مُهمَّةٌ مِنْ عَتَبَاتِ النَّـصِّ، فإنَّ هُنَاكَ دِرَاسَاتٍ عَظِيْمَةً تَتَنَاوَلُ الحَرْفَ العَرَبِيَّ وغَيْرَ العَرَبِيِّ؛ فَنَجِدُ أنَّ أصْعَبَ مَا وَاجَه الدُّكْتُورَ حَسَنْ عَبَّاس حِيْنَ دَرَسَ الأحْرُفَ العَرَبِيَّةَ بِعِنَاَيَةٍ هوَ تَحْرِيْرُ خَصَائِصِ تِلكَ الأحْرُفِ المُمَثَلَةُ في الهِجَائِيَّةِوالإيْمَائِيَّةِوالإيْحَائِيَّةِ، فالحَرْفُ الوَاحِدُ قـدْ يَكُوْنَ لَهُ أكثرَ مِنْ مَعْنَى بِحَسَبِ مَوْقِعَهُ، ولكَيْ يُثْبِتُ تَوَافُقُ خَصَائِصِ الحُرُوْفِ العَرَبِيَّةِ مَعْ مَعَانِيْهَا اسْتَعْرَضَ 9767 جِذْراً لُغَوِياً وأثْبَتَ مِنْهَا مَعَانِي 3523 جِذراً لُغَوِياً، بلْ أَكْثَرُ مِنْ ذَلكَ حِيْنَ دَرَسَ الْحَرْفَ العَرَبِي فِي دِرَاسَةٍ مَع الشَّخْصِيَّةِ العَرَبِيَّةِ وكَيْفَ أنَّ قِيْمَةَ الحَرْفِ العَرَبِي تُعَادِلُ قِيَمَةَ الشَّخْصِيَّةِ العَرَبِيَّةِ، وكانَ أغْرَبَ مَا خَطَّهُ بالفَعْلِ فِي هَذِهِ الدِّرَاسَةِ حينَ دَرَسَ الحَرْفَ منْ خِلالِ الحَوَاسِ الخَمْسِ ليُشَكِّلَ منْهَا هَرَماً لهُ قَاعِدَةٌ تَبْدَأ بِحَاسَةِ اللمْسِ، ولَهُ قِمْةٌ، مُتَدَرِّجاً مِنْ خِلالِ بَاقي الحَوَاسِ، ولِكُلٍّ مِنْهَا فئةٌ مُعَيَّنَةٌ منْ الحُرُوْفِ، وهوَ مَا يُؤَكِّـدُ أهميةَ الحَرْفِ، باعْتِبَارَه عَتَبَةً نَصِّـيَّةً، حتَّى فِي الحَوَاسِ الخَمْسِ، بِمَعْنَى رَبْطِ العَلاقَةِ بالحَوَاسِ الخَمْسِ في حدِّ ذاتِه طَرِيْقٌ إلى انْفِتاحِ الأحْرُفِ على عَوَالِمِ الطَّبِيْعَةِ والفِيزْيَاءِ منْ خِلالِ أصْوَاتِها يَقُوْلُ مُؤكِّـداً على أنَّ العُنْوَانَ عَتَبَةٌ على شَخَصيَّةِ العَرَبي:" ثَبُتَ لي عَلَى وَاقِعِ آلافِ الأمْثِلَةِ المَضْرُوْبَةِ أنَّ العَرَبِيَّ قَدْ اعْتَمَدَ خَصَائِصَ الحُرُوْفِ ومَعَانِيْهَا في ألفَاظِه للتَّعبِيْرِ عن معانيهِ ولقدْ آخى في ذَلِكَ بِصُوْرَةٍ عَامَةٍ بَيْنَ القيمِ الجَمَاليَّةِ والقِيَمِ الإنْسَانِيَّةِ، مما يَشِيْرُ إلى فِطْرِيَّةِ العَرَبِيَّةِ. ولكنَّ هذه الفِطْرِيَّةَ تَفْتَرِضُ بُداءَةً الحَرْفَ العَرَبي وفَجْرِيَّةِ الإنْسَانِ الذي أبدَعَه، بمعنى أنَّهُمَا قد نَشَآ وتَرَعْرَعَا واسْتَوْفَيَا شُرُوطَ تكاملهما ونُضْجِهما في بيئةٍ هِيَ حَصْراً الجَزِيْرَةُ العَرَبِيَّةُ، لم تغزُهما فيها لغةٌ ما ولا شَعْبٌ آخر، والعَكْسُ صحيحٌ، وهذا يَقْتَضِي أنْ تَكُوْنَ الجَزِيْرَةُ العَرَبِيَّةُ الأمُّ هي الأسْبَقُ حَضَاريًّا وثَقَافِيًّا منْ سَائِرِ المناطق المجاورة". وكانَ مِنْ أهَمِّ ما بَحث فيه الدكتور حَسَنُ أنَّ هناك علاقةً متبادلةً بين الحَرْفِ العَرَبي والإنسانِ الذي أبْدَعه، وهو ما يُحْسَبُ له. وليس أدل على قيمة الحرف العربي أننا وباعتبارنا عرباً أبناء "الضاد"، فالضاد هو ما تتميز به العربية باعتبار أنه لا يوجد في أي لغة أخرى.
-------------------
بقلم: د. عزوز علي إسماعيل
من المشهد الأسبوعي - اليوم مع الباعة