08 - 05 - 2025

نوتردام.. تولد من جديد

نوتردام.. تولد من جديد

كانت أول عاصمة أزورها خارج حدود المحروسة وأول مدينة أتوه فيها، للتيه فى المدن الغريبة طعم التجربة الأولى وشيء من ملح المغامرة، نزلتها محملاً بعبق روايات توفيق الحكيم، وأجواء يحيى حقى، وأيام طه حسين، ولوحات يوسف فرنسيس، تمشيت في طرقاتها وفى الذاكرة أصداء قراءات فيكتور هوجو، وجى دى موباسان، وألبير كامى،نزلت بغرفة صغيرة بفندق بسيط، يتناسب وإمكاناتي المادية،فى الحى اللاتينى، قلب باريس النابض.

زرت مسرح الأوديون وفتشت مع الحكيم عن وجه بائعة التذاكر، مهتديًا بوصفها فى عصفور من الشرق، بحثت عنها فى وجوه كل الباريسيات، وعندما التقيتها، تمشينا تحت نديف الثلج وعدونا كمجنونين تحت المطر، نكاية فى نزار قبانى حين قال، (نحن من عامين .. لم نزهر .. ولم نورق .. ولم نطرح ثمر/ نحن من عامين لم نبرق .. ولم نرعد / ولم نركض كمجنونين ـ يا سيدتي، تحت المطر).

خلفى مبنى السوربون، وفى الجوار شارع سان ميشيل، وعلى مقربة تقف كنيسة نوتردام، سيدتنا العذراء، Notre Dame، أول كنيسة أراها بالطراز القوطى الفريد، علمتنى نوتردام زيارة الكنائس والبازيليكات وتأمل عمارتها وفسيفسائها ودقائق فنون زيناتها، من تلك الكنيسة الصغيرة القابعة على ارتفاع سبعمائة متر فوق جبل نيبو، بالأردن، محل سيدنا موسى، عليه السلام إلى مدينة الفاتيكان بروما، عرفت أوربا العمارة القوطية بالتزامن مع اجتياح قبائل القوط الجرمانيين إيطاليا فى القرن الخامس الميلادى، فانتشرت معهم عمارة الأقبية المتشابكة عبر أعصاب بارزة تزينها الأقواس والاكتاف مع الزجاج الملون للنوافذ والأثاث الخشبى داكن اللون.

من صنع من، هل صنع فيكتور هوجو من كنيسة نوتردام معلمًا تاريخيًا يقف أمامه الزوار والسائحون فى طوابير طويلة لزيارتها، أم صنعت الكنيسة من روايته (أحدب نوتردام) عملاً خالدًا، أرى الاحتمال الأول أكثر قبولاً، ألم يظل قصر الحمراء مهجورًا لعقود طويلة إلى أن زاره الكاتب الأمريكى واشنطن إيرفنج عام 1832 فما أن أصدر كتابه (حكايات الحمراء Tales of the Alhambra) حتى صار القصر محل اهتمام العالم وقبلة سائحيه، وتكريمًا له، حُفِرَ اسمه فوق باب الغرفة التى كتب فيها روايته، وقت كان جزء من القصر يستخدم كفندق.

تخطى ما دونه هوجو عن الكنيسة ما يجعلها مسرحًا لروايته إلى بيان معرفته الدقيقة بتاريخها وأحداثها فانعكست فى شخصياته، تمامًا كما فعل الكاتب الأمريكى دان براون فى روايته (ملائكة وشياطين)، حين سرد وحلل تاريخ لوحات اللوفر، مُعطيًا لوحة العشاء الأخير لدافنشى أهمية خاصة، جعلتنا نحصى خلفه عدد الحواريين ونتساءل، يد من تلك التى تقبض على الخنجر فى إصرار، ثم ألهب تفكيرنا حين دعانا لتدقيق النظر فى وجه وكف الجالس على يمين السيد المسيح، لنتساءل معه، أهى حقًا مريم المجدلية.

وحد هوجو شخصية الرواية المحورية،كوازيمودو، أحدب الظهر دميم الخلقة مع الكنيسة، ليصبح رمزًا نقيًا وطاهرًا للدين يفوق ما يظهره القس كلود فرولو أمام الناس، لعقود ظل الأحدب منبوذًا حتى حوله حب أزميرالدا إلى رمز للعطاء والإيثار، مؤثرًا سعادتها على سعادته، وإن اقترنت تضحياته بتعاسته، علم البشر أن خلف كل خِلقَه خُلق جدير بتحديد قيمة ومكانة الإنسان، من هنا خُلدت الكنيسة وتخطت دورها الدينى إلى مسرح لأحد أهم الروايات العالمية، وبنفس مستوى الألم، الذى وقف به العالم يتابع آلام كوازيمودو، وقف مرة أخرى ينظر إلى فم النار المسعور يلتهم الكنيسة قطعة قطعة، منتظرين خروج الأحدب من بين حطامها، ليؤكد لهم أنها لا شك ستولد من جديد .
---------------------
بقلم: د. محمد مصطفى الخياط
[email protected]

مقالات اخرى للكاتب

نوتردام.. تولد من جديد