يسافر السلطان إلى ألمانيا لقضاء بعض الوقت في الاستجمام والتخلص من ضغوط إدارة الحكم، أقام وبعض المقربين فى قصر بمدينة بادن بادن وأقامت الحاشية في فندق قريب، بعد ما استراح من عناء السفر، جلس مع خلصائه وراح يقارن بين المانيا ومملكته في موران، أوصى كاتبه تسجيل ما ينوى القيام به عند عودته، رفع مستوى دخل المواطنين، الاهتمام بجودة التعليم، شبكات مياه نظيفة، طرق ممهدة، اتصالات، خدمات حكومية مميزة، حدائق ومتنزهات، وغيرها مما جادت به نفسه على شعبه في لحظة رضا.
في الجوار، تسرى همهمة خفيفة، ينتحى بعض المقربين منه إلى مكان بعيد عنه حتى لا يسمع ما يقال، يحكى أحدهم بينما الباقون عيونهم مفتوحة دهشة واستغراب، يضربون كفًا بكف، تند من حين لآخر كلمات تعجب وعدم تصديق، (مش ممكن، غير معقول أن يفعل أهله ذلك).
يتفقون على إخفاء السر عن السلطان، ربما تغيرت الأمور وعادت المياه إلى مجاريها، ولكن متى حبست النار الدخان، وإن أنكرته العيون فهل تتجاهله الأنوف، يعرف السلطان بأمر الانقلاب الذى نفذه بعض أقاربه وأصحاب النفوذ في السلطنة، انتشلهم من الضياع وآواهم وعفا عمن أخطأ واليوم يعزلوه، اعدوا كل شيء وانتظروا حتى سافر ثم خلعوه من منصبه.
يُجن جنونه، يُقسم، متى عاد، أن ينتقم من كل المشاركين في الانقلاب، يتراجع عما عقد عليه العزم من إصلاحات، موقنًا أنهم عبيد سوء لا يستحقون سوى العصا، يطلب طائرة للرجوع إلى السلطنة فلا يستجاب له، يطلب مقابلة المسئولين الألمان فتصله رسالة أنه مرحب به ما ترك السياسة، تسود الدنيا أمام عينيه وتزداد قتامتها مع فشل كل محاولة للعودة.تلك هى حبكة رواية (مدن الملح .. الـمُنْبَتْ) للكاتب السعودى عبد الرحمن مُنيف.
انقلاب أبيض، مثل كل الانقلابات البيضاء التى شهدتها المدن العربية، الشيخ خليفة بن حمد آل ثاني في قطر على ابن عمه، ثم انقلاب ابنه حمد عليه وتنازل الأخير فى يونيو 2013 لابنه تميم، وقابوس على والده السلطان سعيد في عُمان، والملك فيصل على أخيه سعود في السعودية، انقلابات بيضاء حسمها من يملك القوة.
في الجزائر، شارك عبد العزيز بوتفليقة بدور رئيسي في انقلاب بومدين على أحمد بن بيلا، تنقل بعدها بين ضوء المناصب الوزارية وعتمة الإقصاء، ثم التوهج رئيسًا.حتى نهاية ولايته الثالثة، عرفه الجزائريون رمزًا للمصالحة، أعربوا عن قلقهم حيال ترشحه لفترة رابعة، ولم يستطيعوا الصمت عندما غازل الولاية الخامسة.
بعد سلسلة من الانقلابات تولى عمر البشير رئاسة السودان، انقلاب جعفر نميرى على إسماعيل الأزهرى، ثم الانتفاضة الشعبية ضده وتولى سوار الذهب الحكم لعام سلمه بعدها إلى قيادة مدنية، انقلب عليها عمر البشير، ثم عزله منذ أيام. في الحالتين، الجزائر والسودان، وغيرهما، تحركت الجماهير في حشود مليونية وظل الحسم بيد من يقبض على البندقية.
يطل عبد الرحمن منيف من جديد بخماسيته مُدن الملح (التيه، الأخدود، تقاسيم الليل والنهار، الـمُنْبَت، بادية الظلمات)، كتبها في منتصف الثمانينات، أى قبل أكثر من ثلاثين عامًا مما شهدته المنطقة العربية، ورحل عن عالمنا في 2004، دون أن يرى نبوءاته تتحقق في أكثر من بلد،يقول في ذات الرواية، وعبر حوار يتدفق بين شخصيتين من شخصياتها (في هذا العصر، الذى يملك أمولاً أكثر ودبابات أكثر هو الأقوى، وكل قوة أخرى في مواجهة المال والسلاح مجرد وهم). رحم الله مُنيف.
----------------------
بقلم: د. محمد مصطفى الخياط
[email protected]