17 - 07 - 2025

حنين

حنين

عندي حنين بالغ لذلك الشجن الساحر في صوت مؤذن عجوز كان ينادي لصلاة الفجر في قريتي الصغيرة قبل نحو عشرين عاما.

من مكبر للصوت لم يعد مستخدما ربما في البلد الذي صنعه، كان الصوت يخرج نقيا في خشوع يقترب من البكاء، دون تصنع، وهو ينادي بشهادة التوحيد: لا إله إلا الله.

لم يكن المؤذن يرهق أحباله الصوتية بأكثر مما تستطيع، في أداء كان يأخذ السامع المنصت إلى عالم يوقن بوحدانية الإله، فلا يقسو مخلوق فيه على آخر.

كان المؤذن يكرر كلمات الأذان، وفي نبرته نداء خفي لجيرانه الذين يكاد يعرفهم بالاسم.

لم يكن يهمل حق حرف أو مستحقه، حتى يشعر من يسمعه، أن صاحبنا يناديه بحي على الصلاة، فيتذكر غفلته، أو بشهادة أن محمدا رسول الله، فيذكر في نفسه كم جانب سلوكه سنة الرجل الذي قال: إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق.

لم يكن ثمة كاميرا يتأنق أمامها المؤذن وهو أمام القبلة في المحراب، ولم يكن هناك تسجيل صوتي ليوصي الأصدقاء بتداوله، وهو يعلو ويهبط بمقامات الأذان، كفنان مخضرم يحفظ عن ظهر غيب أوزان الكلام، وقوة الحروف، وحركات المد.

كان المؤذن في قريتي بسيطا كأيامها البعيدة، يسري في صوته الدفء والأمان الذي كان يلفنا جميعا، في بيوت كانت ترضع أطفالها المحبة، حتى وإن لم يكن فيها ما يكفي من القوت!

كان صاحبنا ينهي الأذان ويصلي ركعتين، ثم يجلس مسبحا، قبل أن يقوم للصلاة، ثم ينصرف إلى بيته في هدوء، متدثرا بثيابه البسيطة، يضرب الأرض بعصاه، في خفة، متفاديا العثرات، وفي صدره رضا يسع العالم.
----------------------
بقلم: إسماعيل الأشول

مقالات اخرى للكاتب

حنين