سيناريو كارثة جرار القطار بالمحطة الرئيسة بالقاهرة؛ لا يدعو للدهشة؛ لأن مسلكها يحدث كل يوم؛ بل كل ساعة وكل لحظة في مصر، ليس على القضبان الحديدية فقط؛ بل على إسفلت شوارعها!
سيناريو كارثة جرار القطار؛ التي بدأت باحتكاك جرارين، ذكرني بتدوينة سابقة؛ استدعيها للمقارنة؛ في إطار رصد مسلكية دالة على انهيار قيمة احترام القانون في مصر. تأملوها معي، وقارنوا ما ورد بها مع ما حدث في كارثة الجرار:
حالة... (الطريق مُخْتَنق بالسيارات المُشوَّهة بالكدمات من كافة الجهات. فجأة يصُمّ أذنيك صوت ارتطام سيارة بأخرى من مقدمتيهما. المذهل أن المُخالِف بالسير عكس الاتجاه يصرخ بوقاحة في وجه المتضرر: “يا أخي مش تفتح عينيك؟”!!
والمدهش أكثر أن جمهور الأرصفة يتدخل للتهدئة بينهما بعبارة:”معلشي يا أستاذ الحمد لله جت في الحديد”!! هل الضمير المصري مات يا رجالة؟!!)
*****
ولننتقل من حالة اصطدام السيارتين؛ إلى حالة احتكاك الجرارين. ليفضح تصريح السائق المتسبب في الكارثة مجمل القضية؛ إذ يقول: ( في تقاطع في السكة الحديد، اصطدم بي جرار آخر... الجرار التاني كان بيخبط فيا... ). فما كان منه إلا أن ترك الجرار المحتجز في حالة تشغيل؛ ونزل للسائق الآخر للعتاب؛ واشتبكا في مشادة، واستطرد: «أنا لما نزلت قلت له أنت غلطان وهو بيقول لي أنت غلطان... الجرار مشي... إزاي أنا مش فاهم»!!!
وأضاف: (كان المفروض أوقف الجرار، لكن الجرار اندفع بسرعة كبيرة جدا، ربما مع تحرك يد السرعة المختلة بسبب الهزة التي تعرض لها... الغلط أني لما نطيت من الجرار عشان اتخانق نسيت أعمل احتياطاتي عشان يوقف)!
واستكمل تبريراته: (لما الجرار انطلق بسرعة كبيرة اتصلت بالبرج، رد علي مرة والمرة التانية مردش عليا. البرج كان ممكن يعمل حاجة، لكن لما كلمته مرة رد عليا الموظف قال لي ماشي ماشي ، والمرة التانية مردش عليا.)!!!
*****
ووقع الحادث المخيف؛ فمن هو المتهم الأول المتسبب في حدوث كارثة جرار قطار ملغوم بالوقود / السولار سريع الاشتعال؛ يدخل خلسة من دون سائقه بسرعة 60 كلم/ الساعة إلى المحطة الرئيسة بمبنى هيئة السكك الحديدية في محطة مصر؛ ويصطدم في واقية الاصطدام الحديدية؛ فالمصد الخرساني في نهاية خط السير داخل المحطة، فالرصيف رقم 6؛ ويتحول إلى قنبلة أسقطت 25 حالة وفاة حرقا وإصابة 40 آخرين؟!!
لا يتم توصيف هذا التساؤل في إطار فكرة "نظرية المؤامرة"؛ كعمل إرهابي، لأن ذلك يمكن أن يلقي صفة العبقرية الفذة على افتراض من استصنع السيناريو؛ وقام باختيار عناصر تنفيذه؛ وهو توصيف من المستبعد حدوثه؛ لكي لا نقوم باستصناع صورة ذهنوية كذوب في رعبها للجماعة البنائية المتأخونة منبع الفكر الإرهابي وأزلامها الكامنين في النسيج المصري.
*****
كارثة جرار القطار بالقاهرة يمكن أن ينظر إليها العقل التفكيكي في إطار " فقه الحالة " وليس منفصلا عن هذا الفقه؛ حالة حوادث القطارات في مصر التي تسببت في كوارث دامية للغاية؛ ولها مسببتها البنيوية؛ فيما يتعلق بالبنية الأساسية؛ والبنية الإنفاقية المادية؛ والبنية الاقتصادوية؛ والبنية الإدارية والتسييرية والضبطية؛ والبنية الوظيفية؛ وفي قلبها البنية البشرية من عناصر الإدارة العليا، وعناصر الإدارة الفنية، نزولا إلى عناصر الكوادر الخدمية.
كارثة جرار القطار ومماثلاتها من حوادث الاصطدامات؛ واقتحامات الإشارات؛ وخلل تحويلات تقابلات القطارات على الخطوط الحديدية، بامتداد بنية السكك الحديدية المصرية العتيقة تاريخاويا؛ هي كارثة واحدة متسلسلة الفصول؛ سبقت مرحلة رئاسة السيسي وتتعدد مسبباتها؛ غير أن أهم عناصرها، فهو العنصر البشري؛ والذي لا يلقى التكثيف الواجب من الاهتمام، والتركيز على جرمه الحقيقي.
*****
كارثة جرار القطار التي أنتجتها مسلكية لحظة غضب أحمق بين السائق المتسبب في المصيبة علاء فتحي الفني الذي يعمل بالسكة الحديد منذ 26 عامًا، وبين زميله أيمن الشحات الذي كان يقود جرارا آخر؛ فتماسا... وتوقفا في نقطة التقاطع؛ ليقفز أحدهما ويقول للآخر: " أنت غلطان "؛ فيرد الاتهام له بـقوله: " لا أنت اللي غلطان ". فيما الجرار يزمجر من دون سائقه حيث يختزن قدرة وطاقة الاحتراق؛ ولكنه مكبل بالاحتجاز من الجرار الآخر؛ وما أن تخلص لبرهة من قوة الفعل المضاد من الجرار الثاني الذي عاد إلى الخلف لفك الاشتباك؛ حتى انطلق جامحا في طريقه إلى المحطة الرئيسة لتحدث الكارثة المرعبة!!
*****
هنا إذن... فتش وستجد أن سر البلاء الأول في منظومة الكوارث بمصر يكمن في عنصر البشر؛ النخبة الخاصة والنخبة العامة ومجموع الأفراد غير المندرجين في هذا التخصيص.
وكلهم من نتاج عقود طويلة، من التربية العشواءوية الفاسدة؛ بكل منظومتها القيمية المتردية؛ وبتواكليتها المسلكية المرضية؛ واستحلالها الفوز بما ليس لها؛ وجشعها النهبوي لكل ما تجده أمامها؛ وادعائها التقوى والورع، فيما بينها وبين التقوي الحقيقية والورع الأصل ما يعادل المسافة بين السماء والأرض؛ واتصافها بالتباكي والتشاكي " عمال على بطال ".
والأمر الكوارثي الأعمق؛ أنها نشئت وتمت تربيتها، ومترستها وقائيا على مقولة " اللي تغلب به إلعب به "؛ وطريق " فوت علينا بكرة يا سيد " لذلك " لا ضرر ولا ضرار " أن تكون فاسدا، لأن المجتمع كله فاسد؛ وبالتعبير الشعبوي " إشمعنى أنا يعني "!!
في واقعة جرار القطار، يقول أحد السائقين لنفسه: لماذا يعبر هو التقاطع قبل أن أعبره، فأخذ يسابقه والسرعة 60كلم/ الساعة. ولأن كلا منهما حاور نفسه بالقول: " إشمعنى أنا أخليه يسبقني ويمر قبل ما أمر أنا " فكانت تجليات مسلكية الأنانية الجمعوية فحدثت الكارثة.
*****
إنها من ملامح فساد الذات الجمعوية الشعبوية المصرية؛ التي أسقطت قيمة احترام القانون، وإماطة الأذى عن الطريق؛ فصار الطريق سواء كان إسفلتيا أو على قضبان من حديد؛ تضبطه إشارات ضوئية، أو علامات مرور؛ أو لافتات تحدد الممنوع والمسموح يجري تجاوزها " عيني عينك " ليل نهار.
كما صار من سمات هذه الذات الجمعوية أن تخترق اللا مسموح، وتتجاوز الممنوع تحت السمع والبشر ؛ بقوانين الغفلة " اللي تعرف ديته إقتله "؛ و " كله يدلع نفسه بالعقل والأصول "؛ كيف؟ " خد إششب شاي "!!
*****
لذلك تتوافق الآراء أو تختلف تجاه الموقف الذي ينبغي الارتكان إليه أمام الكارثة البشعة لحادث جرار القطار؛ وبرصد مواقع التواصل الاجتماعوي؛ تنفضح الذهنية الجمعوية حين ترتب مواقفها من الحادث وفق اتجاهين:
** أولهما: احتجاز الكارثة لتكون حجرا سوداوي اللون جديدا في بناء جدار الهجوم الشرس على الرئيس عبد الفتاح السيسي؛ ضمن ظاهرة تمثيل احتقانات النخب العشواءوية؛ بشرائحها الثلاث المتأخونة والمتأدلجة والمتنشطة؛ وهياجها المصطنع وتثورنها المفتعل؛ ليس حزنا على الضحايا؛ ولكن انتهازا لتوظيف كارثية الواقعة في طعن المشروع الجاري تكريسه وإنجازه.
** ثانيهما: اجترار الكارثة؛ وجرها إلى المربع الأقرب إلى التخندق في حيز دفاع الدروشة عن الرئيس السيسي؛ وكأنه المتسبب حتى من قبل أن يولد في حدوث كل هذه المنظومة من الفساد الأخلاقوي والسياسوي والثقافوي والاقتصادوي في مصر؛ أي فساد العقل الجمعوي بمجمله. وقد التقمت هذه الشريحة الطعم؛ فأظهرت دروشتها التلقائية في ردود أفعالها تجاه خطاب النخب العشواءوية المحتقنة. ولم تتنبه إلى سر النكبة المتمثل في العنصر البشري.
*****
كارثة جرار القطار ؛ ينبغي أن تفضح بقوة وشجاعة السيكولوجية الجمعوية للمصريين؛ والتي ربيت على انعدام فضيلة الاعتراف بالخطأ أو الخطيئة؛ لذلك تبقى محكومة بجعجعة " لا مش حاروح فيها لوحدي "؛ أو "حاطربقها على الجميع". أو كما قال سائق جرار الكارثة: (... مش كل المسؤولية علي؛ وماينفعشي أبقى كبش فداء)!!
-------------
بقلم: رأفت السويركي