10 - 08 - 2025

حجر بيت خلاف: السقوط في سجن المقبرة لايقتل الأمل

حجر بيت خلاف: السقوط في سجن المقبرة لايقتل الأمل

- لوحة تخيلية تقدم عالم تجارة الآثار في الصعيد وتصنع أسطورتها الخاصة

عرفت الكاتب محمد على إبراهيم ابن محافظة قنا منذ أن كان طالبًا في كلية الهندسة جامعة أسيوط، وكان يكتب الشعر والقصة القصيرة ويشارك في ورش الكتابة التي تقيمها هيئة قصور الثقافة، ومنذ قرأت أعماله الأولى توقعت أن يتفرد بأعمال جادة، وقد كان؛ إذ صدر له تاريخ لا يروق لكم، وطعم البوسه، وأنت حر ما دمت عبدي، والجدار الأخير، والولد كوريا، وديوان صحاب، ثم، ديوان مواويل الثرى.

في روايته "حجر بيت خلاف" يقدم عالم تجارة الآثار في الصعيد في لوحة تخيلية تصنع أسطورتها الخاصة، حتى أنك تظن أن هذا العالم غير حقيقي وبعيد تمامًا عن الواقع، ومن نسج خيال الكاتب وحده، لكنه يفاجئك بغرقه في الواقعية بطينها، شأنها شأن أعمال الواقعية القذرة التي تفتح لنا بشكل غير معتاد آفاقًا متعددة مستخدمة أدواتًا غير مألوفة، تصدمنا وتصيبنا بالدهشة، كما قدمها لنا كل من ريتشارد فورد، وريمون كارفي في رواياتهما، وفي مصطلح بيل فورد رئيس تحرير مجلة جرانتا الذي وصف به بعض أعمال الكتاب الأمريكيين.

وقد يسألني قائل لماذا استعين بتيار في الأدب الأمريكي لقراءة عمل شديد المصرية؟ وأقول لأن هذا التيار يصف حياة المهمشين الأمريكيين خاصة في الريف وعلى الطرق البعيدة المهجورة تقريبًا في الحانات والنزل الفقيرة في عالم مقفر وحزين يشبه كثيرًا الأجواء في قاع المجتمع المصري والعربي وإن بدا لنا ممتلئا بالبشر، كما أن اللغة شديدة الاختصار، متخلية عن الجماليات المعروفة للعربية، تجعلها أقرب لهذه الكتابات المتميزة في الواقعية القذرة بحدتها، وأيضًا باشتراك هذا التيار مع الرواية في تناول حياة شديدة الوحشية لأناس يعيشون بيننا سواء أكانوا هاربين برغبتهم، أو مطاردين من الآخرين.

يغزل الكاتب بوعي شديد كيف يستطيع الأب نابش المقابر الفرعونية محمود سباق أن يقدم ابنه سيد قربانًا على مذبح باب المقبرة ليرضي حراسها والرغبات الجنسية المحمومة للشيخ المغربي الذي يفك طلاسمها. في إشارة واضحة لاختلال قيم الشرف والرجولة عند من يبيع آثار وتاريخ بلده وقدرته المرعبة على بيع مستقبله أيضًا متمثلا في ابنه الصبي سيد سباق الذي يصب الأب الزيت على مؤخرته في مشهد شديد الدلالة لينتهك الشيخ المغربي براءته ويذبحها تحت سياط وهج الذهب الذي يعمي البصر والبصيرة.

هكذا تبدأ الرواية قوية لتصحبنا في رحلة هذا الصبي نحو النمو والانتقام. يقدمها الكاتب بأصوات متعددة وبنية تعتمد على الانقسام بين المتن والهامش في ثنائية ينتصر فيها المتن معظم الوقت، ويتغلب فيها الهامش بعض الوقت، حتى تقترب الرواية من النهاية فيتعملق الهامش ويكاد أن يبتلع النص.

يمثل المتن أوراق الراوي وفيه سرد للأحداث وتمثل البرديات  الهامش وتبدأ هذه الثنائية التبادلية من مدخل النص في الصفحة الأولى يقول في أوراق الراوي:

كمسيحة،

ترقدين في البرواز

أنتظر كحواري أخير

قيامك؛

فينهمر زفافي

ثم ينتقل على الفور إلى برديات البطل سيد سباق قائلاً:

متى تبدأ القيامة؟ يقوم الميتون والأحياء عندما ينتفي الزمن؛ تبدأ القيامات.

متى تبدأ الحياة؟

عندما نرى الخلود.

في انتظار انهمار زفافه والخلود يقبع النص الممتع للقارئ.

ويعتمد الكاتب ثنائية ثانية بين الواقع المقبول والمسكوت عنه من جميع الأطراف لعالم قرية بيت خلاف وناسها الأشداء في الظاهر، الطيبين في الباطن، وقطاع الطرق، وسارقي الآثار، ورجال الشرطة، والباشا، وباقي دائرة الفساد، من ناحية، وعالم الخيال الذي يجوز فيه كل شيء من قطع مسافات إلى قارات أخرى في ثوان، إلى عودة أموات إلى الحياة، إلى الرؤية والاستبصار من ناحية ثانية.

بين هاتين الثنائيتين تتحرك شخصيات الرواية التي أجاد الكاتب تصويرها، في لغة شديدة الخصوصية والرهافة تتمتع بانسيابية تتناسب مع السرد الذي يبدو سهلا ممتنعًا تخدعك بساطته. شخصيات مثل سيد سباق الذي كان أبوه يؤهله للسيادة لكنها سيادة منقوصة بالانتهاك، ومحاولاته للإفلات من مصيره بالتفوق في معرفة اللغة الفرعونية.

توقفت كثيرًا عند الربط بين عدم قدرة سيد على الاستمرار في التعليم وتفضيل التجارة مع أبيه على المدرسة وسهولة قبول الأب لهذا الأمر بلا تردد، وكأن التسرب من التعليم والجهل حتمي ليفقد الانسان وعيه بالانتماء، وإن كان الباشا واللواء السابق الذي يساعده في السرقة، وكذلك مدرس الآثار المشارك في اللعبة هم متعلمون أيضًا، فهل كان يقصد أن الجهل جزء من الموضوع لكنه ليس كل شيء؟

ربما. المهم هنا هو قدرته على تقديم شخصياته واقناعنا بأنها حقيقية من لحم ودم، وعلى الرغم من خروج الموناليزا من إطارها، واختفاء لوحتها من المتحف، وتحولها إلى إحدى الشخصيات الحية في الرواية، وكذلك ظهور مينا موحد القطرين في كسر واضح لعناصر الزمان والمكان معًا إذ يجتمع التاريخ الفرعوني متمثلاً في الآثار المنهوبة قسرًا، والتي تتوج بانتهاك قبر مينا موحد القطرين ذاته مما يدعوه للخروج إلى الدنيا مواجهًا هذا الانتهاك، ويجتمع في زمن واحد مع الشخصية التي رسمت شخصية الموناليزا من داخل لوحة دافنشي الأشهر، والتي تمثل عصر النهضة بكل تجلياته، فتخرج له من إطارها وتتفاعل معه ويقدمها الكاتب امرأة بسيطة تخلت عن غموضها وهيبتها الشهيرة، واقعة في غرام سيد سباق الطفل المنتهك الذي تحول على يد المؤلف إلى أبو طويلة الخارق القدرات الذي يستطيع أن يصل إلى باريس في ثوان ويعود وقتما يشاء. وينهي رسالته بقتل عبد النعيم، الساحر الذي لوث براءته.

تعج الرواية بشخصيات متفردة وهي ميزة واضحة فالشخصيات لا تشبه بعضها على الرغم من وقوعها في نفس الضغوط ونفس المسارات والبيئة الواحدة كل منهم يمثل نفسه هاربًا من التنميط المعتاد. باحثًا عن هدفه وسعادته حتى بتخليه عن أكثر المسلمات قوة وتأثيرًا أمثال سعد أبو إسكندر وزينب التي أخذت العهد من أبيها. سيد سباق

اعتمد الكاتب لغة متنوعة بين اللغة البسيطة الوصفية، والتقريرية أحيانا، واللغة الصوفية، مذكرًا القارئ بالنفري والحلاج وابن عربي في لمسات فرشاة في يد رسام ماهر. واستخدم الرسوم الفرعونية والخرائط والنصوص بخط اليد ليقنعنا بواقعية الخيال الأسطوري الذي يقدمه لنا، في صور وأحداث مشوقة تصيبنا بالدهشة طوال أجزاء الرواية ممسكا بخيوطها بمهارة صياد يتحكم في صيده فلم تفلت الخيوط في شبكته المعقدة طوال العمل الروائي الثالث له بعد أن كان قد أصدر ديوانين وعدة مجموعات قصصية.

يفلت الكاتب من الوقوع في مصيدة الزهو ببطله الذي يتغنى ويتفاخر بأنه ورفاقه من أبناء الزناتي خليفة، وأبو زيد الهلالي سلامة، والخضرة الشريفة. ويجعله يسقط في سجن المقبرة لكنه لا يحرمه من الأمل في أن تلد امرأته المشمسة ولدًا من صلبه ثم يفتحان المقبرة ويحرران بيت خلاف من الجمس، والمساليب، ورجال لواء الداخلية. ويقرر أن العالم سيظل مرتبكًا ولن تشرق الشمس حتى يعود.    
--------------------
بقلم: هالة البدري