- تجربة حياتية مفعمة بالحيوية تمثل قطعة حية من تاريخ مصر وصراع أهلها من أجل الحياة
اكتشف عادل سعد مدير تحرير المصور، ومؤسس ومدير مركز الهلال للتراث موهبته الأدبية متأخرًا جدًا، فصدر له بعد أن تجاوز الخمسين من عمره عملان:
الأول مجموعة قصصية ملفتة للنظر هي البابا مات، ثم رواية رمضان المسيحي، التي جعلتنا وببساطة نترقب عمله التالي الذي سيؤكد أو ينفي إن كانت الكتابة الأدبية هي مسار حقيقي أو مجرد رغبة ظهرت فجأة وتغيب فجأة كما جاءت. دخل المؤلف إلى مضمار الأدب مسلحًا بقدرة هائلة على التعبير عن أفكاره، اكتسبها من طول الاشتغال بالعمل الصحفي، وبلغة سليمة متميزة، وقدرة على الوصول إلى المعلومات باعتبار أن المعلومات والتوثيق هي شغله الشاغل.
كانت أولى ملاحظاتي على العملين السابقين له هي استخدام أدوات الصحفي البارع في شد القارئ لمعرفة المتن الذي يعلن عنه العنوان، فلن يضيع عنوان مثل البابا مات، أو رمضان المسيحي عن سؤال يطرق الذهن على الفور. هكذا كسب الكاتب أول خطوة، وانتظر أن يأتي الطعم بسمكة تلتقطه. وقدم لنا تجربة حياتية مفعمة بالحرارة عن رحلة شاب صغير يذهب إلى اليونان ضمن فريق الشطرنج المصري، فيهرب بعد انتهاء المسابقة ليعمل في فترة الصيف في مطعم ويختلط بالبسطاء من اليونانيين وبالمهاجرين المصريين غير الشرعيين، ويقدم قصص حياتهم في لوحة بديعة وصادقة بما فيهم رمضان الذي قرر أن يتنصر ليكسب الجنسية والوجود الدائم في هذا البلد الأكثر رزقًا، متناسيًا زوجته، وأولاده في مصر، فأصبح رمضان المسيحي.
فاجأنا عادل سعد بلغة مكشوفة وقحة لكنها تغريك أكثر بمتابعة العمل حتى أنني تساءلت وأنا أقرأها هل يمكن أن نطلق على مثل هذه اللغة التي تستخدم الجنس بإفراط أنها لغة رجالية؟
كانت ملاحظتي الثانية على العمل الروائي الأول هي غياب الصراع. فهل هذا الغياب يجعل منها رواية أم لا؟ وهذا أول ما لاحظته في روايته الثانية الأسايطة. لا يوجد صراع بل يوجد تجاور لمشاهد تقدم حياة بشر بعنفوانها الكامل الممتلئ بلحظات الفرح والانكسار معًا وهي تحكي قصة المدينة، ومع هذا أرى أنها رواية كاملة المواصفات بدون هذا الصراع بين أبطالها فكيف كان ذلك؟ تعالوا نتأمل الرواية.
للوهلة الأولى ومن العنوان الذي هو عتبة النص نجد أنه يشير إلى البشر الذين يعيشون في أسيوط، في حين أن الكتاب ومن صفحاته الأولي يقدم لنا أوراق الصحفي الشهيد صادق أبو حامد من شهداء ثورة يناير 2011، وقد وجد في حوزته "فلاشة" عن أوراق تحكي قصة نشأة مدينة أسيوط، وما جرى لها في السنوات الماضية القريبة وهو ما أدى إلى قتله مع سبق الإصرار والترصد.
بطلنا إذن قد استهدف بسبب ما كتب. لكننا لن نعرف عنه أي شيء بعد ذلك إذ تبتلع المدينة العمل بكامله، وتكون البطولة لتلك الأوراق التي تسببت في قتله ونعرف أنها لثلاثة كتب هي: عبيد درب الأربعين، وخالتي بطة الحشاشة، وصلاة العقارب. وتنقسم الكتب الثلاثة إلى ثمانية وسبعين مشهدًا بعناوين وبداية ووسط ونهاية تجعل من كل عنوان قصة قصيرة مكتملة الأركان.
هي رواية مكان بامتياز فلماذا تنحاز البطولة لأهلها معظم الوقت؟ وهل يكون للمكان قيمة بدون ناسه؟ اكتسب المكان قيمته من البشر الذين عاشوا على هذه الأرض. فكيف قدمهم عادل سعد؟ وقد وضع روايته بين قوسين من العقارب القوس الأول يقول: عند دوران الأرض واختناق القمر كان رأي العقارب أن أسيوط مدينة لا تستحق العيش فيها فخرجت إلى الحقول والجبل، وتتبعت أثرها خادمتها الخنفساء السوداء. أما القوس الثاني فجاء على شكل كتاب يختم الرواية ويحقق الغرض منها عنوانه صلاة العقارب، حتى أنني تمنيت أن يحمل عنوان الرواية نفسها فهو لب القضية ومرماها.
تذكرنا الرواية على الفور بقصة مدينتين لتشارلز ديكنز، وبأعماله كلها خاصة أوليفر تويست، ويعود السبب المباشر إلى اختيار القاع أولاً كمسرح للأحداث، وثانيًا لاختيار معظم الأبطال من المهمشين، وثالثًا لأنها تستعين بالتفاصيل اليومية للحياة الشعبية المصرية مستخدمًا الأغاني والشعر والعديد والتاريخ بكل تجلياته. وتذكرنا أيضًا برواية الرحلة لفكري الخولي العامل الشيوعي الذي حكى رحلة حياته، ورحلة مدينته المحلة من مجرد ورش صغيرة تقوم داخل أعواد من البوص والخشب، إلى مصانع الغزل العملاقة، ويحكي فيها هروبه كطفل صغير من قريته القريبة من المحلة إلى هذا العالم الثري للصناعة الذي يختلط فيه كل شيء، فالاحتياج يجعل الجامع على مرمى حجر من بيوت الهوى وكذلك فعل عادل سعد.
تستدعي لنا "الأسايطة" أيضًا على الفور الكاتب خيري شلبي الكاتب المصري الوحيد تقريبًا الذي تعد حياته رواية حقيقية كاملة المواصفات باشتغاله بمعظم الأعمال الصغيرة، وتنقله طفلاً بين القرى والنجوع والورش، والمبيت في الشوارع وداخل المواسير التي تجهز للصرف ليظهر لنا كل هذا في أعمال متعددة منها موال البيات والنوم، والعراوي، ودكان عطية، ومنامات عم أحمد السماك، وغيرها من الروايات التي تكشف قاع المجتمع العربي كما فعلت رواية الخبز الحافي للكاتب المغربي الشهير محمد شكري.
ونعود إلى السؤال: كيف تكون الرواية إذن بدون صراع؟
أرى أن الرواية هي رواية شخوص بامتياز فأنت حين تغلق دفتي الكتاب ستجد نفسك على الفور مازلت تتذكر خالتي بطة الحشاشة التي وضعها عادل سعد بين الكتلتين الرئيسيتين في الكتاب، وسمي الجزء الثاني باسمها أو خالتي أمينة النفاضة، أو عتريس، أو معدول المجنون، أو اسماعيل رزة أو خالتي هوى، التي رفضت أن تعمل كمخبرة مع الضابط بالتهديد ففضحها. ويأتي الصراع بين أهل المدينة البسطاء الذين يرغبون في الحياة الطبيعية حتى لو كانت في شريط فقير من البيوت خلف قسم البوليس أو خلف قضبان القطار، وبين من يشكلون حياتهم بالحديد والنار. الصراع هنا هو صراع الحياة ذاتها مع الظلم الذي يأتي به النظام، والظلم الذي تجلبه أفكار سوداء يعتنقها الإرهاب، والتزاوج فيما بينهما فالرواية تفضح وقع النكسة والهزيمة في 67 على الناس واستدعاء السادات لليمين المتطرف ليواجه به اليسار وخلق المارد والتعاون معه حتى قتل بيديه، وتمتد لتطرح ما قام به نظام مبارك من استمرار التعاون بين الأمن والتيارات السلفية، والإخوانية حتى أفلت منه الزمام.
هي قطعة حية من تاريخ مصر إذن بدون طنطنة، الصراع فيها من أجل الحياة. وهي قصة سيرة أيضًا للطفل الذي هرب من أهله إلى الشارع، فالتقطه مدرب رياضي لينقذه من الضياع، لكن الهروب يكسبه تلك الخبرة التي لم يعرفها غير خيري شلبي وربما محمد مستجاب بدرجة أقل، ومحمد صدقي بشكل ما. والمكان يظهر بعنفوان في الكتاب الثالث صلاة العقارب، وكأن المؤلف يريد أن يذكرنا بملامح الشوارع التي ستواجه العقارب التي لم تعد تعيش في الجبل، بل ظهرت سافرة في شوارع المدينة لتروعها بقتل الأبرياء فيعطي للمقاطع أسماء الشوارع، وأحيانا أسماء الأبنية:
شارع الجمهورية، مساكن نائلة خاتون، قصر أسيوط العيني. ومن خلالها تظهر شخوص حقيقية بأسمائها عاشت في المدينة، تبيح قتل الشرطة وحتى المارة الأبرياء في الشارع أمثال ناجح إبراهيم وعاصم عبد الماجد وما جرى في المدينة من فتنة طائفية مقصودة لشرخ السلام القائم بقيام المدينة ذاتها، وتحويلها إلى مجزرة حقيقية تجعل من الصعب عودة هذا السلام إلى نسيجها الطبيعي بين المسلمين والمسيحيين، ويستعين الكاتب بتوثيق آراء الجماعات وما صرحوا به في حينه ليبرروا القتل، والكذب الذي يعتبر حقا لأمير الجماعة عمر عبد الرحمن لينجو من المحاكمة بالقانون الوضعي الكافر.
لكن المسألة لا تقف عند إدانة الجماعات بل تدين أيضًا قتل الأبرياء الذين يقدمهم النظام للمحاكمة، وتحكي قصة المحامي العام الذي قدم ثلاثة متهمين باغتيال مكرم محمد أحمد ووزير الداخلية أبو باشا وبعد شنق الثلاثة يجري اكتشاف الفاعلين الأصليين للجرائم بعد أسبوعين فحسب من إعدام الأبرياء. هكذا تواجه المدينة كل أصناف العقارب وتخرج معتلة تقاوم الانهيار لكن الكاتب لا ينفي عن أهلها المسئولية فالعقارب منها، وإليها تعود والعتبة الأولى للنص تدين إنسانها الذي لم يقدر تاريخ بلده فراح يبيع على قارعة الطريق أجساد أجداده المحنطة المومياوات المرتكزة على جدار شبه متهاوي لمن يدفع أكثر. عرفتم الآن لماذا اعتبرتها رواية؟ لأنها صادقة.
------------------
بقلم: هالة البدري