أعتقد أنّ أخطر ما يتعرّض له وطن من الأوطان، تداخل الاختصاصات، خاصة عندما تنتهك هيئة عامة الحق الأصيل لهيئة عامة (من نفس الوطن الواحد) ويكون الانتهاك أشد خطرًا عندما تكون الهيئة التى منحتْ لنفسها (حق الانتهاك) بعيدة تمامًـا عن المجال الذى (حشرتْ) نفسها فيه.
والأمثلة على ذلك كثيرة.. وأبرزها ما تقوم به (دار الإفتاء المصرية) منذ سنوات، بإصدار العديد من الفتاوى لها علاقة بالطب (مثل نقل الأعضاء من إنسان لإنسان) ومثل التبرع بالأعضاء بين الأقارب.. ومثل تحريم استخدام (السونار) للتأكد من (خلو الرحم من الحمل) فى حالة السيدة التى ترغب فى السفر مع زوجها الجديد بعد (وفاة زوجها أوبعد طلاقها) والأمثلة كثيرة وهى تدل على ثلاثة مظاهر
- الأول: التعنت فى معاداة قيم وأعراف العصرالحديث، لصالح قيم وأعراف العصر الذى دخل مجاهل ودهاليز متاحف التاريخ.
-المظهرالثانى: إنعدام الرحمة والشفقة بإنسان العصرالحديث (خاصة المرضى) نظرًا لهذا التصلب فى الرأى، والتعصب لما يعتقده أصحاب الفتوى بأنه (هو الصواب المطلق)
المظهرالثالث: أنّ إدارة الفتوى ليستْ (هيئة علمية) ولاعلاقة لها بالعلوم الطبيعة بمعنى أنها غيرمتخصصة فى العلم..وفق معناه العلمى science .
كان المثال الأخيرهو ما أصدرته أمانة الفتوى، التابعة لدارالإفتاء المصرية، حيث ورد بها، أنّ مياه الصرف (المقصود مياه صرف المجارى) المعالجة بالليزر (طاهرة- من الطهارة) واستطرد السادة الأفاضل الشيوخ، فكتبوا فى فتواهم- كما لو كانوا من علماء فى الفيزيا أوفى الكيميا- فقالوا إنّ ((تنقية مياه الصرف الصحى، باستخدام الليزر (الذى يـُـمثل أبرز وسائل التنقية الحديثة، فى تطهيرمياه الصرف الصحى من (النجاسة) وتغيرات الطعم واللون والرائحة..ويجعلها تصبح (طاهرة) وبالتالى يصح بها (رفع الحدث) أى التطهر من الجنابة..وإزالة (النجس) وقضاء المطالب الحياتية.. ويأتى ذلك تصديقــًـا لما ((قرّره الفقهاء)) فى قولهم (بالتكثير)!! فالماء كما يتنجس فيتغير طعمه ولونه أو رائحته (من نجاسة) فإنه كذلك يتطهر بزوال ما غيـّـره ابتداءً)) (نقلا عن صحيفة الأخبار المصرية - 10يناير2019- ص3)
***
آعتقد أنّ السؤال الطبيعى الذى يسأله أى (عقل حر) فى وطن تكون فيه القداسة للإنسان هو: بالفرض أنّ الساحر الذى أنتجه علماء الطبيعة، وأطلقوا عليه (ليزر) سوف يتولى تطهير ماء المجارى.. ويـُـخلــّـصه من (النجس- وهى الكلمة المذكورة فى فتوى الشيوخ) فهل هذا (التأكيد) أى (طهارة الماء) يملكه علماء الطبيعة؟ أم انتقلتْ تلك الملكية لشيوخ إدارة الفتوى؟ أم أنّ شيوخ مصر تحوّلوا إلى (علماء فى العلوم الطبيعية)؟ أليس العلماء الذين أبدعوا اختراع الليزر هم وحدهم الذين من (حقهم) الادلاء بالرأى النهائى فى مسألة (قدرة الليزر) على عملية تنقية ماء المجارى، حتى تكون صالحة للاستخدام؟ وهل هذا الاستخدام يشمل كافة مناحى الحياة، من رى للمحاصيل الزراعية إلى الاستحمام والتطهر من الجنابة؟ كما قال السادة الأفاضل الشيوخ؟ وأليس علماء الطبيعة هم وحدهم الذين يـُـحـدّدون (نسبة) التطهر و(نسبة) الصلاحية)؟ وكيف انتقلتْ- بقدرة قادر- اختصاصات علماء الطبيعة للسادة الأفاضل الشيوخ؟
والسؤال الثانى هو: من منح هؤلاء الشيوخ حق التدخل فى أمور ليست من اختصاصاتهم؟ كما أنهم لايتدخلون فى الأمورالمُـتعلقة بالعلوم الطبيعية (فقط) وإنما يتدخلون- أيضـًـا- فيما يتعلق بشئون المواطنين، وفى أسلوب ونهج حياتهم الخاصة، وأبرز أمثلة ذلك التدخل فى (سن القوانين) التى تحكم العلاقة بين السلطة التنفيدية وسائر المواطنين..كما يـُـصرون على ملاحقة كل صاحب رأى، يعتبرونه (خرج) على النصوص القرآنية (وفق تفسيرهم) وكان سلاحهم فى ذلك (دعوى الحسبة) التى رفعوها ضد نصر حامد أبوزيد، فإذا بالقاضى يحكم بفصله عن زوجته.
حدث ذلك بالرغم من أنّ المذكور- فى كل كتبه ومقالاته - كان دائم الدفاع عن الإسلام.. وكان يستشهد بالقرآن- بمناسبة ومن غير مناسبة، حتى كتابه (مفهوم النص) وهو الكتاب الذى كان ضمن (حيثيات) رفع الدعوى ضده، ليس به كلمة واحدة ضد الإسلام.. والعكس هو الصحيح، حيث كتب أنّ الأخطار التى واجهتْ العرب- مع بداية الدعوة الإسلامية- تركــّـزت فى هدفيْن: مُواجهة الصراعات الداخلية والخطر الخارجى المُـتمثــّـل فى أعداء العرب من الفرس والروم.. ومن الطبيعى ألاّ تــُحقق المسيحية- وهى أيديولوجية مطروحة- أحد هذيْن الهدفيْن، فقد كانت دينـًا غازيًا مُـعتديًا)) (مفهوم النص- هيئة الكتاب المصرية- عام1990ص73)
وعندما سافر د.نصر– بمُساعدة أجهزة الأمن المصرية- للعمل فى إحدى جامعات هولندا هاجم الروائية البنجلاديشية (تسليمة نسرين) لأنها انتقدتْ الجماعات الإسلامية فى رواياتها، ووصفها بألفاظ يُعاقب عليها القانون.. كما أرسل برقية من هولندا– نشرتها صحيفة الأهالى- قال فيها ((أشهد أنّ لا إله إلاّ الله وأنّ محمدًا رسول الله)) فلماذا هذه الشهادة التى لم يطلبها أحد منه بعد أنْ غادر مصر؟ وأصبح بعيدًا عن المُـتعصبين الإسلاميين المصريين؟ أم أنه كان يخشى من أتباعهم فى هولندا.. ولذلك تملــّـقهم بالهجوم على المُبدعة تسليمة نسرين؟ وإذا كان ليبراليًا كما وصفته الثقافة السائدة، فكيف رضى على نفسه أنْ يكون من (العبيد) عندما وصف نفسه بأنه ((رجل من غمار الموالى)) (صحيفة الأهالى 1/12/93)؟ وإذا كان د.نصر مُـدافعًا عن الإسلام فلماذا كفــّـره الإسلاميون؟ هل لمجرد أنه انتقد بعض الجماعات الإسلامية وأطلق عليهم (مُـتطرفين)؟ وانتقد شركات توظيف الأموال (نهب الأموال) التى دافع عنها الإسلاميون أمثال الشيخ الشعراوى؟أسئلة مسكوت عنها فى الثقافة المصرية السائدة.. وأعتقد أنّ تأمل هذه الأسئلة يُـؤكد (الواقع / العبثى/ الكابوسى) الذى يعيشه شعبنا، وهو واقع يحتاج لمُـبدع له موهبة كافاكا أو يوجين يونسكو أوكامى أو آرتوآداموف ليـُـبدع عملا خالدًا حول أسطورة نصر أبوزيد، تلك الأسطورة التى مازالتْ مُـعشـّـشة فى أدمغة المُـنخدعين بالثقافة المصرية السائدة.. وبالرغم من كل ذلك- نتيجة (حشر) الشيوخ أنفسهم فى شئون التشريعات القانونية، تـمّ فصله عن زوجته..كما حشروا أنفسهم فى فتوى تطهير مياه المجارى بالليزر.
----------------------
بقلم: طلعت رضوان