16 - 05 - 2025

"عقوبة الحضن" .. هل هي لتقويم الخطأ أم للذبح النفسي؟!

مش هاتكلم عن رأيي الشخصي في إن شاب وفتاة يحضنوا بعض أو يمسكوا إيدين بعض على الملأ.. ولا هاتكلم عن رد فعل الناس على هذا السلوك، لأن الموضوع متشابك ومختلف من شخص للتاني ومن بيئة اجتماعية للتانية، وصعب تعميم حكم واحد على الأمور واعتباره هو الصح لأن دا محتاج مناخ متناغم مع بعضه ونضال مستمر على مستوى التعليم والإعلام والبيت.. مش هاتكلم عن التعبير العلني للحب عشان أنأى بنفسي عن مناقشات عقيمة في الوقت الحالي، أو إن البعض يعتبرني بدافع عن الفحشاء أو بحلل الحرام!.. في النهاية الوعي الفردي هو انعكاس لوعي جمعي، تكون في ظروف قاسية جدا بيعاني منها المصريين من سنين وتم فيها تجريف ثقافتهم، وكلنا نتحمل مسئوليتها بدرجة ما.
أنا هاتكلم فقط عن نقطة سيكولوجية وتربوية .. وهي المبالغة في العقوبة ( قرار فصل الشاب سنتين من الجامعة .. والبنت فصل نهائي قبل مراجعة العقوبة والاكتفاء من حرمانها من فصل دراسي)! وهي عقوبة عبثية!

1) الهدف من العقاب، هو التربية والتقويم، وإن المخطئ يتعلم من الموقف ويفهم غلطه.

2) المبالغة في العقوبة دليل على العجز والاندفاعية وإن متخذ القرار (الأب / الأُم / المسئول) يفتقد للحكمة والنضج الانفعالي، وتوقيعه لعقاب شديد على فعل بسيط، غالبا بيكون عقاب لنفسه المكبوتة، المحرومة، والخايفة من سُلطة أعلى منه ..سُلطة بيحس بالتهديد الداخلي منها سواء شعوريا أو لاشعوريا .. سُلطة ربما تكون حالية أو منذ طفولته .. سُلطة جعلته منتقما وليس مُربيا أو مقوّم للسلوك. 

3) الإفراط في العقوبة يفقد الخطأ معناه ويجعل معظم الناس يتعاطفون مع المخطئ باعتباره أصبح مظلوما وتفقد صاحب السُلطة هيبته مع الوقت.

4) الأهم من العقاب هو سيكولوجية العقاب، بمعني أن أفهم دوافع الفعل وأحلله نفسيا واجتماعيا لأن الدافع مهم جدا في تحديد نوع العقاب ودرجته وهذا مبدأ يعرفه أهل القانون وعلم النفس .. أن أوصّل لإبني أو بنتي أو الطالب أو الفرد في المجتمع، إن هدفي هو تنمية شخصيته وتعديل سلوكه للأفضل .. والأهم والأعمق من هذا أن يحس إني بتصرف بدافع المحبة والحرص عليه .. وليس بدافع تعذيبه أو فضحه!

5) التشدد في العقاب، مع الوقت بيخلي الإنسان أو المجتمع يعمل مقاومة داخلية ضد كل أنواع العقاب ..وبيرفع إحساسه بالظلم مش إحساسه بالذنب وتأنيب الضمير .. وتؤدي لقمع السلوك مش تعديله .. وتصنع إما شخصية مزدوجة أخلاقيا تمارس في الخفاء كل شيء، وتلبس في العلن قناع الفضيلة، أو تخلق شخصية متمردة ومجرمة ولا يعنيها السُلطة بكل أشكالها.

6) معظم علماء النفس زي "ثورندايك" و"سكنر" اللي عملوا تجاربهم الأولى على وسيلة العقاب كردع للسلوك الغلط، وجدوا إن النتائج لم تكن إيجابية في مجال تعديل السلوك، وقالوا إن العقاب يمكن أن يؤدي لإضعاف الفعل الخطأ وممكن لأ، خصوصا لما يكون العقاب مش بيعرّف الشخص على السلوك الصح اللي لازم يعمله بدل الغلط.

7) لازم كصاحب سُلطة أعمل اعتبار للتكوين النفسي للأشخاص المخطئين ولأعمارهم وللظرف الاجتماعي العام اللي بيعيشوا فيه والمناخ اللي بيتم فيه الخطأ، لأن دا بيساعدني على اتخاذ قرار مناسب. فلا يعقل أن المخطئ بشكل بسيط يرى نفسه ينال عقوبة فادحة ربما لا ينالها القاتل والسارق وحرامي الشعب والفاسد والمغتصب جنسيا!

8) العقاب الإيجابي، زي إنك تخلي ابنك مثلا يلعب رياضة عدد مرات كتير أو يقرا عشر كتب أو يختم القرآن أو أي نشاط فاعل ومفيد، هو اللي بيحسن الشخصية والسلوك، وكل العالم المتحضر بدأ في إنهاء "العقوبة العمياء" .. العقوبة اللي بتزود الجرائم مش بتمنعها .. واللي دخلت المجتمعات في دائرة جهنمية من الانتقام. فكمّ من العدوانيين والمتمردين والمجرمين في الكِبر همّ ضحايا لأُسر ومدارس عدوانية، الضرب واللسع بالنار والإهانة، هي وسيلتها الوحيدة للتعامل مع الأولاد والبنات في الصغر من غير أي محاولة للفهم والتقدير وإدارة الانفعالات بحكمة. 

9) كان يجرى إيه لو كان متخذي قرارات الفصل ضد الشاب والفتاة اللي حضنوا بعض، كلفوهم بعقوبة تخدم المجتمع زي إجبارهم مثلا على تقضية شهر في دار مسنين أو مؤسسة أطفال شوارع أو دار أيتام .. أو أي عمل تطوعي شاق.

كان يجرى إيه لو كانت الجامعة اشترطت عليهم مثلا إنهم يحصلوا على امتياز في كل المواد الدراسية في كل سنوات الدراسة الباقية لهم وإلا سيتم حرمانهم من دخول الامتحان السنة اللي بعدها؟!

أو اشترطت عليهم تعلم لغة أجنبية في ستة شهور مهما كلفهم ماديا أو ترجمة كتاب على حسابهم لمكتبة الكلية؟!

كان يجرى إيه لو حتى اتفصلوا أسبوع مع الاعتذار علنا ويقولوا لزملائهم إيه الدرس اللي اتعلموه من "خطئهم"؟!

طبعا دي عقوبات ممكن تثير ضحك بعض القراء ومعظم المسئولين لأننا في مجتمع عقابي، معظم أفراده أبناء عقوبات سابقة أصلا، مش مجتمع إبداعي حريص على أن يُنشئ أناسا أسوياء!  

10) محتاجين نعيد النظر في أنفسنا ونتعلم امتى نعاقب وإزاي .. محتاجين متخذ القرار يسأل نفسه بصدق وأمانة: هل الأثر النفسي الباهظ للعقاب وخسارة شاب لمستقبله وتجريس بنت وتدميرها، يساوي الخطأ؟.. الخطأ اللي ممكن كتير يشوفوه إنه عادي ويمكن احتواؤه ببساطة ولا يقارن بأفعال جنسية مخزية قام بيها ناس من "كُبرات البلد" أصحاب مناصب ونفوذ كلنا عارفينهم ومع ذلك تم التكتيم عليها .. وأفعال تانية مدمرة ارتكبت ضد الناس الغلابة وضد شعب بأكمله ولم ينل أصحابها أي عقاب يذكر؟! العدل في تطبيق القانون هو اللي بيدي قيمة للقانون .. وروح القانون أهم من نَصّه .. والإنسانية أهم من القانون .. وتاريخنا الديني والإنساني مليء بالشواهد والمواقف المحترمة الرحيمة، اللي عطلت العمل بالقانون أو خففت العقوبة بناء على الظروف المحيطة بالسلوك الخطأ .. لأن ساعتها كان الوعي هو اللي بيحكم مش النرجسية.
----------------
بقلم: د. رضوى فرغلي* 
*استشارية علاج نفسي

مقالات اخرى للكاتب