إنه يوم الإثنين، الموافق الخامس من شهر نوفمبر الماضى، يوم لن يمحى من ذاكرتى ما حييت.
كنت على موعد مع مجموعة من الأطفال للإحتفال بذكرى ميلاد إحداهن.
كان الأطفال يعملون بهمة ونشاط لتزيين الغرفة التى سيقام بها الحفل، بينما كنت أجلس بينهم على مكتب صغير لإنجاز بعض الأعمال الكتابية، و قد رحت أراقبهم خلسة من حين إلى آخر.
فجأة حدث شئ مروع، رأيتهم يبتعدون عنى جميعا، وكأن بينى وبينهم مسافات أوسع بكثير من مساحة تلك الحجرة الضيقة، ثم أخذ كل شئ يتأرجح أمامى، يصعد ويهبط ويدور، تشبثت بالمكتب الذى أمامى حتى لا أقع وأنا فى حالة رعب وفزع بلغت الذروة، كنت أثق أن ثمة شئ خارق سيحدث، ربما أتلاشى، أو أتناثر، أو أحلق عاليا، ربما سيٌكْشَف عنى الآن غطائى لأرى ما وراء الكون.
كنت فى عالم آخر بالفعل، ورغم شعورى أننى أغيب، خطر لى سؤال قد يبدو عجيبًا الآن، ولكنه كان مسيطرًا على وقتها: هل أنا حقيقية؟ أم أن حياتى التى مضت كانت وهما؟ حاولت أن أتحسس جسدى لأتأكد ولكنى لم أستطع، حتى إسمى لحظتها بدا غريبا على أُذنى وأنا بالكاد أسمعه ممن حولى، وكأنى أدرك للمرة الأولى أن هذا هو إسمى بالفعل .
لحظات مرت عَلَىْ كأنها دهرًا، وفجأة سمعت شابًا يطلب منى أن أشمر كم سترتى ليقيس ضغط الدم لدي، مددت إليه يدى بوهن، فقام بعمله ومن ثم أخبرنى أن الضغط منخفض للغاية، حاولت القيام ولكنى لم أستطع، كنت أتصبب عرقا وكأننى نزلت حوض الإستحمام بثيابى.
أيام مرت بعد ذلك الحادث أجريت خلالها بعض الفحوصات، وقد نصحنى الأطباء بالراحة والإلتزام بتعاطى الدواء، ورغم ذلك تكررت الأعراض أكثر من مرة ولكن بشكل أخف بكثير من المرة الأولى.
إلى أن جاء ذلك اليوم، كان الإرهاق قد أخذ منى كل مأخذ وفارقنى النوم ليلة كاملة، وفى مساء اليوم التالى، حاولت النوم ولم أستطع، كنت أشعر بشئ ثقيل يجثم على أنفاسى و يشل قدرتى على النوم وعلى الإستيقاظ أيضا.
حتى أن محاولة النوم من جانبى لم تكن جادة، فقد إستسلمت لخوف هائل أفقدنى القدرة على الإستسلام .. إنه الموت، لاشك أنه شعور ما قبل الموت، ربما هى السكرات، هكذا قلت فى نفسى.
أخذت أردد الشهادتين وكل ما أحفظ من الأذكار ولكنى لم أرتح، فجأة ألهمنى الله أن أدعو (رب لا تقبضنى إلا وأنت راض عنى غير غضبان) ظللت أكررها مرات ومرات حتى شعرت بالإرتياح نوعا ما، ورحت فيما يشبه النوم، ولكنه لم يكن نوما.
لم تستمر تلك الغفوة إلا دقائق معدودات، وفجأة صحوت وكأن شيئا يزلزل كيانى، كانت تلك المرة أقسى كثيرا من سابقتها، حاولت أن أرفع رأسى من فوق الوسادة بصعوبة وهممت بالقيام، فهوت ثانية بلا حراك، كانت تلك المرة الأولى التى أشعر فيها بمعنى الآية الكريمة (كل نفس ذائقة الموت) يا الله ... حقا إن للموت مذاقا.
كنت وحدى بالمنزل، و كان هاتفى المحمول بجواري، طلبت "سمر" صديقتى التى أعدها كأختى تماما.
وجدتها أمامى فى التو، لا أعلم كيف جاءت بهذه السرعة !!!
فى هذه اللحظة، هاتفنى زوجى و حاول إثنائى عن النزول ريثما يعود، إلا أننى لم أستطع الإنتظار.
ألقيت نظرة حزينة على بيتى حيث ودعته بلوعة و ألم، وأنا على ثقة أننى لن أعود إليه ثانية، بل حتى فكرة أننى سأبيت بعيدا عن فراشى كانت تؤرقنى.
ذهبنا إلى أقرب مستشفى من البيت، حيث أدخلونى قسم الطوارئ، لأجرى أشعة مقطعية على المخ و رسم قلب .... الخ .
قادتنى الممرضة على كرسى متحرك بين ردهات المستشفى، تذكرت تلك الأيام وأنا أجرى فى الردهات نفسها وراء أمى - وهى فى مرض الموت - وهى جالسة كما أجلس، كانت الذكرى وحدها كفيلة أن تسلمنى إلى حالة لا قِبَل لى بها.. بكيت كثيرا مرة على نفسى، ومرات على أمى.
عدنا إلى البيت قرب موعد أذان الفجر، ومن تلك اللحظةبدأت أفكر تفكيرا جديدا.
فأنا لم أنج بعد، حتى وإن ثبتت سلامة الفحوصات، سيتكرر هذا اليوم لا ريب فى ذلك، ربما الآن وربما بعد سنوات.
نظرت إلى جدران بيتى وأريكتى المفضلة وفراشى الوثير، هل إفتقدتنى تلك الأشياء، مثلما كنت قلقة أن أفقدها!!!
أليس هذا هو الوهن الذى حذرنا منه رسول الله "وليقذفن في قلوبكم الوهن " فقال قائل: يا رسول الله وما الوهن؟ قال: "حب الدنيا، وكراهية الموت".
تساءلت بينى وبين نفسى بهدوء: لماذا نكره الموت ؟ هل بسبب أولئك المتنطعين الذين أفسدوا علينا دنيانا وآخرتنا، أولئك الذين لا يتوانون عن تذكيرنا ليل نهار بعذاب القبر وظلمة القبر وتراب القبر!!
لماذا كانت الأمور الدونية دائما هى محور تفكيرهم، حتى فى الدنيا ، إختصروا الدين فى فقه دخول الخلاء والخروج منه، ونسوا أن يذكرونا بعبادة من افضل العبادات، ألا وهى عبادة حسن الظن بالله (فما ظنكم برب العالمين) ... ما أجملها من آية!!!
نسوا أن يذكرونا بحب الله لنا، و يغرسوا حبه سبحانه فى أنفسنا.
ثم ألم نأت من ظلمة أيضا! ألم نكن فى بطون أمهاتنا، فغشيتنا رحمة الله وخرجنا وعِشنا ورُزِقنا وسُتِرنا برحمته!! ألم يخبرنا سبحانه أن رحمته فى الآخرة أضعاف رحمته هذه!
لماذا إرتبط الموت فى اذهاننا بأنه رحلة هبوط وليس رحلة صعود!!
تذكرت قصة ذلك الرجل المؤمن فى سورة "ياسين" الذى قتله قومه و بمجرد أن عاد إلى ربه قال: "يا ليت قومى يعلمون بما غفر لى ربى وجعلنى من المكرمين".
تنبهت فجأة أن الموت هو نهاية الدنيا، و ليس نهاية الحياة ، فحياتنا الحقيقية لم تبدأ بعد.
ثم ما الضير أن نخاف؟ الخوف أيضا يشفع لنا عند بارئنا ، ولكننا للأسف غَلٌبنا الخوف على الرجاء، ولم نحسن التوكل عليه سبحانه.
وقع قول الله تعالى "إنٌا لله وإنٌا إليه راجعون " ربما لأول مرة على قلبى بردًا وسلامًا .
لماذا ترعبنا هذه الآية؟ وما أنزلها الله إلا لِتَطْمَئن قلوبنا بها، فنحن أغراب فى الدنيا، والأصل هو معية الله سبحانه و تعالى، فهو القائل "راجعون" ولم يقل راحلون أو ذاهبون،فأبناء آدم الذى نفخ الله فيه من روحه وآمنوا به وإتبعوا رسله ودينه، لن تعرف أرواحهم الراحة والسكينة إﻻ إذا رجعوا إليه.
فالموت هو راحة المؤمن بعد "كبد" الحياة، الموت هو لقاء الأحبة ولقاء رب الأحبة، الموت هو موت التعب والشقاء والمرض .. بل و موت الموت ذاته، فما أجملها من حياة !!!
لا أدعو بكلماتى هذه بالطبع إلى اليأس والقنوط وتمنى الموت، وإنما هى دعوة للتفاؤل و الطمأنينة، كى لا نأس على ما فاتنا ولا نفرح بما آتانا، فالحياة إن كانت جميلة فالآخرة خير وأبقى منها، وإن كانت مؤلمة فالآخرة هى الجائزة الكبرى، فعلام نحزن إذا؟
أما ألم ما قبل الموت فهو أمر طبيعى، فعادة ما يسبق كل فرحة كبيرة ألم ، فنحن نتعب ونذاكر لنفرح بالنجاح، ونَشُق على أنفسنا قبل فرحة الزواج، و يسبق الولادة ألم المخاض، فما بالنا بفرحة لقاء أرحم الراحمين، ألا تستحق بعض الألم!!
مضت الأيام والشهور وأنا أفكر فى الأمر ذاته، ساءت حالتى الصحية أياما أخرى وطلب الأطباء فحوصات جديدة ومخيفة، إنتظرتها هذه المرة وأنا أقل قلقا، وعندما ظهرت النتيجة - مُطَمْئنَة - بفضل الله ، كنت حامدة شاكرة ولكنى لم انس ابدًا هذا الدرس الذى كان فى حد ذاته منحة وليس محنة منه سبحانه وتعالى.