15 - 08 - 2025

"أمي وساعات السفر" .. قصة قصيرة

"خلاص قربنا"، قالها أبى بلهجته الصعيدية الحازمة ناطقاً القاف جيماً موجهاً حديثه لأمى الجالسة خلفه في السيارة المتجهة من القاهرة إلى بيتنا في ملوى بالمنيا. زرنا عمى فى مصر، كما اعتدنا أن نقول كلما قصدنا القاهرة. أجلس إلى جوارها، خلف أخى الكبير الجالس إلى جوار أبى المهيب في جلبابه الفضفاض وأكمامه التى لا ينفك يشمرها بعصبية من حين لآخر. 

همست أمى في أذنه عدة مرات. رد عليها بصوت منخفض وحازم فارتدت كسيرة لا تدرى ما تفعل. تشاغلت ببعض الكلام معى وقد عقدت ذراعيها على بطنها. تضيق عينيها البنيتين مع دورات الألم ثم تنفرجان عندما يزول. مالت على أبى، نفخ ولعن بصوت خفيض متداخل، لعن يوم وافق على سفرها معه، ثم أردف مُعطشاً حرف الجيم (أجيب دورة ميه منين). استدارت أمى في جلستها، ركنت ظهرها إلى جدار السيارة، أفسَحتُ لها مكاناً لتفرد ساقيها. أشارت بكفها ألا أتحرك. اتكأت بمرفقها على الكرسى مسندة رأسها بكفها مغمضة عينيها. كانت تعانى مغصاً شديداً.

صباح اليوم، وقبل مرور عمى فانوس بسيارته علينا، أعدت زوجة عمى الفطور. امتلأت المائدة بأصناف الطعام اللذيذ. إسكندرانية، جاءت مع أبيها الكاتب في سوق الجملة. تقدم عمى لخطبتها بعد ما رآها تتردد على أبيها. لم يكن حاله ميسوراً كما هو الآن ومع هذا قَبِله والدها. تزوجا وبشطارة عمى وصبرها عرفت حالهما شيئاً من سعة. رائحة الكبدة الإسكندراني تعبق البيت. أكلها شهى وأطباقها متنوعة. في يوم السفر لا تتحمل أمى رائحة الطعام. تقلب رائحته معدتها، فما بالك إذا أكلت. عزم عمى عليها فاعتذرت. أصر فأقسمت أنها لا تستطيع. جذبها أبى من ذراعها فجلست مُذعنة مولية وجهها بعيداً عن المائدة. بخلاف أبى، لا يجبر عمى زوجته على شيء، قد يطلب منها شيئاً عند زيارتنا في العيد فتجيبه أو تعتذر فلا يُعيد عليها الطلب وكأنها، في الحالتين، أجابت رغبته.   

بيد كسولة تناولت أمى قطعة خبز، أبقتها في يدها، ناولتها زوجة عمى طبق الكبدة فأشاحت بوجهها وقالت متوسلة (سيبونى براحتى). ربَتَتْ على كتفها بحنان وراحت تعد بعض الساندوتشات ثم قالت (قد تحتاجونها في السفر ... الطريق طويل)، ردت أمى بصوت واهن (يكفى كعك العروس)، ابتسمت زوجة عمى ونظرت نحو أخي وقالت (عقبال ماهر)، لم ترد أمى، أحسست أنها في عالم غير العالم، عَقب أبى (ربنا يبارك ونشوفكم دايما في فرح). 

شرخ صوت زمارة سيارة عم فانوس الجلسة فوقف أبى وهو يقول (يا للا .. الراجل مستنى ومعاه ركاب). رُحت التهم قطع الكبدة بنهم، فلن أذوقها ثانية حتى نزور عمى مرة أخرى ومن يدرى متى تكون. يبيع سيد كبدة، هكذا يسميه أولاد شارعنا بينما تسميه أمى سيد زبالة، الساندوتشات أمام المسجد الكبير، يخلطها بالبهارات والفلفل الحامى. يقول الأولاد أنه يبيع لحوم حيوانات ومع هذا يُقبلون عليه.

تحمل أمى هم السفر من وقت يخبرها أبى بنيته. لم ترغب في صحبته لكن ما باليد حيلة، كيف لا تحضر زفاف ابنة عمى. عيب لا يمحوه الزمن. تكره أمى السفر وسيرته. تتعذب متى نوى أبى، حتى وإن سافر وحده. عذاب يسبق يوم الذهاب وعذاب في يوم الإياب، وبينهما عذابات البعد عن البيت. أمى نبت لا يُشتل. شجرة كافور تظلل ما حولها فإذا ما حاولوا نقلها ماتت إلى جوار مستقر جذورها.

خفف السائق من سرعته وانحرف يميناً عن الطريق. قرأت بوضوح (رِست المنيا). اصطفت السيارة بين سيارات تعلوها كراتين وشكائر. يرتدى معظم الحضور الجلابيب، رجالاً ونساء. الأفندية قليلون، هكذا يطلق أبى على من يرتدون البنطلون والقميص. تقدمنا أبى نحو المطعم فيما انحرفت أمى يساراً إلى دورة المياه، سرت خلفها، انتظرتها عند الباب. أخيراً خرجت تمسح وجهها بكفها اللدن ويقطر وجهها ماءً بعد ما غسلته عَلّها تفيق قليلاً، أمسكت ضلفة الباب بيمناها وخطت العتبة، اتكأت علىّْ وسرنا ببطء نحو السيارة. (كلى لك لقمة يا أم ماهر)، جاءنا صوت عم فانوس من فوق السيارة يُحكم ربط الحبل على أمانات المسافرين، (ما فيش نفس يا أبو مينا .. بِدى أروح)، قالت أمى وانسلت إلى مقعدها هى تطلب منى أن ألحق بأبي كي لا يغضب.

صعدت سلم المطعم، تخطيت رجل ستينى بشارب كث غير مشذب يدخن، وآخر يجلس القرفصاء قبالته. المطعم صاخب تغمره رائحة الأطعمة، زحام، رجال ونساء بجلابيب سوداء كتلك التى ترتديها أمى. كدت ارتطم بهم، لمحت أبى يجلس إلى طاولة وأمامه أكواب الشاى وبعض الطعام، لا يأكل أبى اللحم في المطاعم، يخشى الغش ولا يطمئن إلا إلى طبق فول أو شوربة عدس مع قطعة جبن، نَظَر في عيني سائلا بصمت عن أمى، فيما لاحت هى من بعيد عاصبة رأسها متكئة على ظهر الكرسى المقابل. أكمل أبى طعامه صامتاً ينظر حوله فيرى رجالا ونساءً متحلقين حول طاولات الطعام، تنهد وتمتم (ألسنا كغيرنا؟)، تجاهلت تعليقه، دس يده في فتحة جلبابه وأخرج صندوق دخانه من صديريته، فتحه بأناة، أخرج سيجارة واشعل عود ثقاب وراح ينفث مستسلما، وبخطوات ثقيلة اتجه إلى السيارة جلس إلى جوار أمى، نظر إليها بحنان، سحب نفساً عميقاً من سيجارته ثم ألقاها بالخارج منتظراً معاودة الرحلة سيرها نحو قريتنا.

تمت
--------------------------
بقلم: د. محمد مصطفى الخياط
[email protected]m