13 - 05 - 2025

متى يجفُ دمع الشام؟

متى يجفُ دمع الشام؟

فى أحد مساءات رمضان البعيدة وبعد صلاة التراويح فى المسجد الأُموى قصدنا جبل قاسيون. بدا مهيباً بظلام دامس يكسو صدره إلا من ثلاث كلمات كبيرة الحجم مضاءة بالنيون تمجد الحاكم. مروراً بحى المهاجرين، أحد الأحياء السكنية المميزة بدمشق، سلكنا طريق الصعود إلى قمته الواقعة على ارتفاع يتجاوز واحد كيلو متر. مقصد الترفيه للأصدقاء وقبلة المحبين ومبتغى سياح يتلهفون رؤية الشام من أقرب نقطة للنجوم. يطلق السوريون على دمشق لقب الشام. لا تعفيك الذاكرة من مقارنة بين الحدود القديمة والجديدة للكلمة، وقت أن كان الشام يضم سوريا ولبنان والأردن وفلسطين، ثم اختزالها اليوم فى مدينة واحدة. قاسية هى الجغرافيا.آ 

يُطل قاسيون على دمشق أو تنام الشام عند أقدامه. سوق الحميدية، قبر صلاح الدين، المسجد الأُمَوى، حى الشيخ محى الدين بن عربى، أو الشيخ الأكبر كما يُكنيه تلاميذه ومريدوه. المتوضئ بماء العشق تبتلا، المعجون بماء الوجد تفردا، الـمُولى وجهه قِبَلَ حبيبته الفارسية، النِظَام، أو عَين الشمس كما كان يحلو له أن يُكنيها. ابنة شيخه، وقت درس على يديه فى مكة، يراها فى غدوه ورواحه فهام بها عشقاً. يقول فى صَدَّرَ ديوانه ترجمان الأشواق (عنها أُكنى واسمها أعنى وكل دار فى الضحى أندبها فدارها أعنى). عاش حياته من ترحال إلى ترحال. تطول إقامته فى مدن وتقصر فى أخرى.

يخرج الشيخ الأكبر من مسجده، يطوف أحياء الشام، يتذكر شبابه فى مُرسيه بالأندلس. ترحاله الدائم. لا ينزل بلد إلا واستعد للرحيل. مستنفرة رواحله صوب منابع النور. غرناطة مبتدأ المسير فى خط لا يعرف بماذا يمر ولا متى ولا أين ينتهى. مشدود بخيوط من نور ونار إلى مَدارات العلم وما تضمه من كواكب ونجوم. دمشق الـمُتكأ والـمُستقر. مكة قبلته ومعين زاده ومحل لقاءه بعَين الشمس، أيقونته، جُرحه النازف وزهرته الأثيرة، ينبوع حكمته ومجونه. من الـمُوصل إلى المدينة المنورة، على ساكنها أفضل الصلاة والسلام، ومنها إلى رحاب المحروسة، ثم إياباً إلى مكة قِبلة الأولين والآخرين. دمشق حيث الموعد لا يعلمه إلا الله، فقونية فأرمينيا فبغداد فحلب، ثم ها هو يأوى إلى دمشق فلا يغادرها ولا تغادره.

يقول نزار قبانى عن الشيخ الأكبر، (ألبِسُ جُبَّةِ محي الدين بن عَرَبيّْ/ وأهبطُ من قِمّة جَبَلِ قاسيونْ/ حاملاً لأطفال المدينةْ .. خَوْخا ..ورُمّاناً ..وحلاوةً سِمْسِمِيَّهْ ..ولنسائها ..أطواقَ الفيروزْ ..وقصائد الحبّْ ...)، هكذا وضع نزار قبانى طقوس زيارة قاسيون. يراه البعض موضع السهر، ويراه آخرون الأنسب للحب، ربما لأنه عال وقريب من القمر.آ 

فى المساء، يُلقى قاسيون على الشام عباءة مرصعة بالنجوم واللآلئ تخفى آلامها وأحزانها. تتزين دمشق كل ليلة منتظرة فارسها. تنسى آلام النهار ومخاضات الغسق يصحبها دمٌ يصبغ الأفق. يُظلها سحاب الموت. وحين يأتي النهار تمتد حرائقها إلى ربوع الشام، وريف الشام، وحضر الشام، ثم يأتي المساء فلا تتردد فى استعادة زينتها حتى وإن زكمت الأنوف رائحة البارود والموت الـمُطل من فوهات البنادق وعيون المدافع. تُردد خلف أسماء بنت أبى بكر ناعية ولدها مُنكرة فعلة الحجاج بن يوسف الثقفى (أما آن لهذا المصلوب أن ينزل)، فلا المصلوب نزل ولا السيفُ غُمِد. يبكيها الشيخ الأكبر، يبكيها المسجد الأموى، يبكيها صلاح الدين من قبره المجاور، يبكيها القاصى والدانى، يبكيها بنوها صباح مساء، فلا النواح كف ولا الدمع جف. تُرى متى يجف دمع الشام؟.
----------------------
بقلم: د. محمد مصطفى الخياط

[email protected]

مقالات اخرى للكاتب

نوتردام.. تولد من جديد