أخيرا نجح العرب بعد كثير من الشد والجذب فى توقيع إتفاقية التبادل الجغرافى مع الغرب.
كانت الإتفاقية تقضى أن يأتى الأوروبيون إلى بلاد الشرق الأوسط ، بينما يحتل العرب دول شمال البحر المتوسط.
وعندما تم تطبيق الإتفاقية وسافر العرب إلى الغرب، إنبهروا بما شاهدوه فى تلك البلدان وأحسوا بمدى سذاجة أصحابها السابقين عندما تخلوا عنها بكامل إرادتهم، فالمناظر الطبيعية كانت ضربا من الخيال، أما النظافة والنظام فكانتا مثارا لتعجبهم وأحاديثهم لفترة طويلة من الوقت.
ومما زاد من قناعتهم بعبقرية الصفقة أن الجو كان رائعا، مما أشعرهم بشئ من التشفى فى الأوربيين الذين لابد و أنهم كانوا يتلظون تحت شمس أغسطس الحارقة فى الأرض العربية حينذاك.
تم توزيع المواطنين تبعا لحالتهم المادية، فقد إحتل الأغنياء أقصى الشمال بينما سكنت الطبقة المتوسطة والفقيرة فى الجنوب.
أكثر ما عانت منه تلك الطبقة كانت السرعة المفرطة للسيارات الحديثة الفارهة فوق الشوارع الناعمة كالحرير، مما دفع الأهالى لعمل المطبات الصناعية أمام بيوتهم حرصا على حياة صغارهم الذين كانوا ينطلقون للٌعِب فى الشوارع والطرقات.
كان كل ما يشغل بال بعض ربات البيوت هو موعد صرف بطاقات التموين وبعضهن إنطلقن للتسوق وشراء أفخر العطور ومستحضرات التجميل قبل أن تنفد المنتجات الأوربية الفاخرة من الأسواق وتحل محلها البضاعة المحلية.
أما الرجال فقد كانت نظرتهم أبعد من ذلك بكثير، فقد لاحظوا أن البيوت لا تعدو أن تكون طابقا أو إثنين على الأكثر، لذلك راحوا يتفاوضون مع موظفى المحليات لبناء مزيد من الأدوار لأولادهم خاصة الذين بلغوا سن الشباب، بينما عمل أولئك الذين إمتلكوا بعضا من الفدادين الزراعية على تقنين أوضاعهم لتقسيمها وبيعها كأراض للبناء.
كان السفر والإنتقال أمرا فى غاية اليسر، فما عليك إلا أن تستقل القطار لتصل من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب فى ساعات دون ملل أو إنتظار.
أما الاغنياء فقد قاموا بهدم الأحياء التى سكنوها رأسا على عقب - حتى الأثرية منها - فبنوا ناطحات السحاب وبرعوا فى إنشاء الأسواق التجارية و"المولات" التى ضمت أشهر الماركات العالمية، بعد أن إستقدموا خبرات أجنبية من البلاد العربية "الحديثة" للعمل كعبيد (على حد تعبيرهم) فى بلادهم الأوربية بعد أن كانوا أصحابها.
لم يهتم العرب المهاجرون كثيرا بمعرفة أخبار الأوربيين، إلا أنهم قد سمعوا عن حرب باردة بينهم وبين دولة فلسطين المحتلة، فإستبشروا خيرا وازدادوا يقينا بأنها منطقة "شؤم" تعج بالمشاكل والعراقيل ولم يكن لهم ذنب لهم فيما جرت به المقادير، وقد إنتظروا بتحفز بالغ قيام حرب وشيكة ستأكل الأخضر واليابس فى تلك البقعة.
ولكن دهاة السياسة منهم فطنوا إلى أهمية إنشاء كيان مشترك بينهم، أطلقوا عليه إسم (جامعة الدول الأوربية) وأطلقوا الإسم نفسه على الشارع الذى أقيم فيه مقر الجامعة.
تكيف المواطنون مع الواقع السعيد، ولكن مع حلول الشتاء أسُقِط فى أيديهم.
أصبحت أكوام الجليد تحاصرهم بل وتجمدت المياه فى الصنابير، فآثر العاملون البقاء فى البيوت بينما رقت قلوب الأمهات، فخشين على أبنائهن من الذهاب إلى المدارس والجامعات فى ذلك الصقيع.
وبدأت (جامعة الدول الأوربية) تتفاوض مع (السوق العربى المشترك) لإستيراد النفط والغاز الطبيعى من بلادهم لحل الأزمة، بالإضافة إلى محاصيل الموالح والخضروات حيث فشلوا فى زراعة الأراضى التى تجمدت بفعل الجليد أو البناء، وإستوردوا تلك المحاصيل بأضعاف السعر الذى كانوا يتعاملون به وبشروط صعبة ومجحفة.
كان الطقس لا يشجع على العمل او الإنتاج، ومع مرور السنوات إعتاد الأثرياء منهم على قضاء فصل الشتاء فى الأرض العربية، خاصة الساحلية منها وتلك الجنوبية كأسوان والأقصر التى تحمل على أرضها ثلث آثار العالم، أو تلك الأسطورية كالعراق والمغرب، أما بلاد اليمن فقد كانت الجنة بعينها .
وقد لاحظوا كثيرا من التغيرات التى طرأت على المنطقة، كان أبرزها توحيد العملة والعمل على إعادة تشغيل خط السكك الحديدية الذى كان يربط البلدان العربية فى السابق من المحيط الى الخليج.
لم تدم الحرب الباردة فى المنطقة طويلا، فقد وقعت الدول العربية "الحديثة" معاهدة مع الطرف الإسرائيلى تنص على أن ترحل إسرائيل من المنطقة إلى البقعة التى تروق لها فى قارة أوروبا "العربية" مقابل أن تعترف بها وتساندها.
ولكن هيهات.. هيهات، فقد قامت القيامة فى بلاد أوروبا العربية وهبت "جامعة الدول الأوربية" وإجتمعت وإنتفضت لـ"شجب" و"إدانة" القرار، وإشترت أسلحة بالمليارات لمواجهة هذا العدو الغاشم، إسْتُخْدِمت معظمها فيما بعد فى حروب نشأت فيما بينهم.
فى الوقت الذى بدأت الجاليات اليهودية فى النزوح إلى وسط أوروبا وإقامة دولتهم وسط مباركة دولية و صراخ أوروبى بالغ.
أول ما فعلته دولة إسرائيل الجديدة هو قطع شريط السكك الحديدية التى تربط بين البلاد الأوربية بعضها البعض، ثم قامت ببناء المستوطنات والجامعات والمصانع المختلفة .
وأصبحت وسيطا بارزا فى حصول البلاد الأوربية على النفط والغاز العربى بعد تحويله إلى مصادر طاقة جاهزة للاستخدام.
مرت الأعوام وكبر أطفال العرب الأوروبيين، واستنكف أبناء الأغنياء منهم أن يلتحقوا بجامعات أصبحت من وجهة نظرهم - "لوكال" - كجامعة "السوربون" و"أوكسفورد".
فسافروا من بلادهم للإلتحاق بجامعات عريقة كجامعة "بغداد" وجامعة "القاهرة"، وآثر معظمهم البقاء فى المنطقة العربية حيث الرقى والتراث الثرى والموقع العبقرى ووفرة فرص العمل والأجور المجزية ، وإعتدال المناخ مقارنة ببلادهم فى أوروبا.
بدأ شباب المجتمع الأوروبى الفقير فى السعى وراء لقمة العيش بعد أن هجر كثير منهم الدراسة فى مراحل مختلفة، فعمل بعضهم على "توكتوك" فى بعض الأماكن مثل برج إيفل ومتحف اللوفر الذى كان يرتاده عدد محدود من السياح بعد أن تم تأجير بعض قاعاته لإقامة حفلات الزفاف، وترميم البعض الآخر بقبح لا يخفى على أحد.
فى حين إنصرف آخرون للعمل فى صف السيارات بالشوارع وقد وضعوا صفارات فى أفواههم تصم الآذان، بينما إفترش الكثير منهم أرصفة الشوارع خاصة شارع "جامعة الدول الأوربية" لبيع المنتجات الصينية الرديئة.
كان إرتفاع سعر الوقود فى بداية العام الجديد بمثابة القشة التى قصمت ظهر البعير، إجتمع المتضررون وللمرة الأولى قرروا أن يتعلموا من تاريخ الثورات فى المنطقة، فقرأوا عن ثورة محدودة قامت للسبب نفسه فى نهاية عام ٢٠١٨ فى دولة فرنسا "سابقا" فى ذلك الوقت، إنتهت بتلبية مطالب الثائرين، بل وإرتداء رئيس دولتهم سترة صفراء - مثل تلك التى إرتداها الثائرون - كدليل على مدى أسفه، فإستلهموا فعاليات تلك الثورة وإرتدوا السترات الصفراء وإنطلقوا بأمان إلى الشوارع، ولم يعيروا إهتماما يُذكر لأول شرطى قابلهم، فإستوقفهم و سأل أحدهم ببرود: قل لى إلى أين المسير فى ظلمة الدرب العسير يا كابتن؟
فأجابه بحماس: رايح أثور يا عم العندليب.
الشرطى: إنت ما تعرفش إن إرتداء السترات الصفراء معناها إنك حتبقى مفقود يا ولدى مفقود؟
الثائر بتعجب: ليه يا حضرة الأمين؟
الشرطى: دا عمل مُجَرٌم فى الدستور منذ عام ٢٠١٨ يا مواطن.
الثائر: إزاى يا حضرة الأمين ؟ مفيش حد جَرٌمْها ، أنا قريت كويس ومتأكد.
الشرطى: إتجرمت فى قوانينٌنا إحنا يا خفيف، إحنا نعيش على أرضهم آه، لكن نمشى على قوانينهم إزاى يا مؤمن؟ دول ناس كفرة والعياذ بالله، يلا ياض إنت وهو من هنا، أحسن والختمة الشريفة أجرجركم ع القسم.
عاد الثائرون إلى منازلهم يجرون أذيال الخيبة وهم يحلمون بيوم يستطيعون فيه الهجرة إلى الأراضى العربية المتحضرة بلا رجعة.
--------------------
بقلم: أماني قاسم