26 - 04 - 2024

من الأحلام(2) .. أحـــــلام تحكى

من الأحلام(2) .. أحـــــلام تحكى

وحيدة. أنا وسيجارتى وفنجان قهوتى. لا صوت. لا حركة. يتمطع الملل حولى مستمتعاً بجو مثالى. أعود إلى شقتى فانقطع عن العالم وينقطع العالم عنى، بابها بوابة جنتى صباحاً، حين أغادرها، وبوابة جهنم عصراً، حين أعود إليها.أتوجس اقتراب الساعة من الخامسة عصراً، موعد الانصراف من العمل. اتردد فى دخول الشقة. حال ماأدخل، أقذف حذائى المعلق بقدمى فتستقر كل فردة فى ناحية، ألقى حقيبتى والمفاتيح على الترابيزة. أضئ الطرقة، يتمدد اللون الأصفر فى الفراغ باهتاً بليداً، اتعمد إلقاء ملابسى يميناً ويساراً كسراً للروتين وبأن فى هذا البيت شيء حى يتحرك، يرفض، يغضب، وكثيراً ما يثور.آ 

منذ فارقنى أحمد، زوجى، والغرفة تزداد برودتها يوماً بعد يوم. من أكثر من ثلاثة أعوام، وعلى أثر آلام مفاجأة فى البطن، دخل المستشفى وأجرى له الأطباء عملية الزائدة الدودية، مثله مثل ملايين قبله وبعده، لكنه تفرد بتلوث الجُرح، ليخطفه طائر الموت ويختفى فى الفراغ الكالح الرمادى بحثاً عن صيد جديد، أُلَوح له فيتجاهلنى، أقذفه بغضبى ويأسى وجنونى دون جدوى.لم يمر على زواجنا سوى ثمانية أعوام، عشنا فيها أسعد زوجين، أشبعته حباً وأشبعني عشقاً.لم نرزق أطفالاً. منذ رحل والحياة بلا طعم ولا لون. تشققت أرضى وأوشكت بساتيني على الذبول.

مللاً، أجلس أمام التلفاز، أُمدد ساقيَّ على الطاولة الصغيرة، أضع الأكل فى طبق واحد، الأرز واللحم والسلطة والخضار، أمضغ على مهل، أحملق فى الشاشة المضيئة، أتنقل من قناة لأخرى دون بوصلة تحدد رغباتى، مسلسل، نشرة إخبارية، إعلانات، برامج حوارية مملة، فقط لأقتنع أن الزمن يمر. من قال أن سرعة دوران الأرض ثابتة. هُراء. خداع. هل يمر الزمن فى فترات الحزن والألم والترقب بنفس إيقاعه فى الفرح والسعادة؟،لا، بل ثقيل جداً على الحيارى والمجروحين والمكلومين.آ 

أغطس فى مواقع التواصل الاجتماعى، اتبادل رسائل استهلاك الوقت، ألبى دعوات الخروج مع صديقاتى ومعارفى دونما تردد، تفصيل ملابس، زيارة طبيب، تسوق، وأحياناً توصيل أولادهم إلى دروسهم الخصوصية. أقبل ونادراً ما أرفض. على العكس من ذلك، عندما أشكو الوحدة وأبدأ رحلة يأسى منقبة عن جليس، عن صديقة، عن جارة، أدعوهن لفنجان قهوة مع بعض الحلويات، تنهال على سيل اعتذاراتهن.

عصر أحد الأيام وجدت محمود ينتظر المصعد ريثما يحضره حارس العمارة بعد ما نسى أحد السكان إغلاق بابه. لم أره منذ فترة، بدا ودوداً راغباً فى الحديث. على غير عادته، لم يبعد عينيه عن مجال جسدى تركهما على راحتهما تتجولان، تهرولان وتتمشيان، ترتفعان وتهبطان، تختفيان وتظهران. بغريزة الأنثى أحسسته يفتشنى، ولولا شيء من حياء لصلبنى وراح يتأملنى. غادرت المصعد وأنا أحس صهد عينيه فى ظهرى.آ 

بعدها بعدة أسابيع هاتفتنى سلوى، زوجته، تستأذن فى الجلوس معى بضعة دقائق.علاقتنا ليست وطيدة يحكمها البروتوكول. أعددتُ فنجاني قهوة رشفناهما خلال تبادل أسئلة رفع الحرج، الأولاد والمدارس، والعمل، بعدها أخبرتنى وجود عريس. حدثتنى عن كمال، صديق زوجها، وشكرت فيه حيناً وحزنت لزوجته حيناً آخر، حتى صرت فى حيرة وتساءلت، هل تختبرنى أم تبحث عن زوجة لكمال.بعد انصرافها انتابنى شعور متباين،حيناً ألُوم نفسى على تسرعى بالرد وحيناً لا أجد فى ذلك شيء من حرج، فأنا لم أقبل العريس بعد، ولكنى قبلت أن نلتقى ثم يقرر كل منا، مثله مثل غيره ممن تقدموا لى خلال السنوات الماضية واضطررت لرفضهم. لم تكن عروضاً متكافئة ففضلت كتم صرخات وحدتى فى داخلى وحمل لقب أرملة فى صمت.

بعد أيام من التواصل المتبادل أخبرتنى رغبة زوجها معرفة بعض التفاصيل منى مباشرة، عندما زارنى بدا مختلفاً شيئاً ما، تنظر عينيه إلى لا شيء. بعد ما غادرا رحت استرجع شريط الحوار شيء ما بداخلى يخبرنى أن هناك أمراً غير عادى، لا تبدو الأسئلة نقلاً عن شخص، إنها أسئلته هو، ورحت أتخيله الزوج المنتظر، ثم ضحكت من سذاجتى وعمدت إلى صنع فنجان قهوة منتظرة ما سيسفر عنه الغد. تكررت الزيارات وفى كل مرة يترسخ لدى أن لا كمال فى الموضوع وأن العريس المنتظر ليس سوى محمود نفسه، ومع هذا آثرت التجاهل، من ناحية أعرض طلباتى دون حرج ومن ناحية أخرى يُخرج كل ما عنده.آ 

ظُهر أحد الأيام، اتصل بى وطلب مقابلتى، مر عَلىّ بعد انتهاء عملى، ذهبنا إلى مطعم الشجرة، وما ان استقر بنا المجلس حتى نظر فى عينى ثم راح يعترف فى هدوء (لا كمال، ولا أحد آخر يطلب الزواج، أنا من يطلب منك الزواج)، قال محمود ثم انتظر ليرى تأثير كلماته علىّْ. بدا وجهى قطعة ثلج كأنى لم اسمع شيئاً. كرر كلامه وزاد عليه (.. اضطررت لذلك خشية أن ترفضى، رأيتها وسيلة آمنة لمعرفة رأيك بحيادية، إن كان إيجابيا صارحتك بالحقيقة، كما أنا الآن، وإن غير ذلك طويت آلامى فى صدرى صامتاً). انتظرته حتى أفرغ كل ما لديه، ثم أخبرته معرفتى بالحقيقة. سألنى ملهوفاً (كيف عرفت؟)، فأجبته بهدوء (من عينيك).

ينتابني إحساس بالذنب تجاه سلوى، أتخيل ردود فعلها تجاهى حين تعلم بزواجى من محمود. أتنهد. يأكلنى الألم. يقرقش عظامى وأحاسيسى. يتلذذ بحيرتى. آخذ نفساً عميقاً من سيجارتى. أقف أمام المرآة أضع كحلا ثقيلاً حول عيناى، أُسوى شعرى، أرفعه، أعبث به، أبدو غجرية تصرخ عينيها بلهيب لغة الكون الأولى. أتأمل سهولى وتلالى، أرضى وجبالى، بساتيني وثماري.اتضرع للسماء.ابتهل كى يهطل المطر. طال انتظارى على أغصان الصبر. أترقب الربيع وكف البستانى فى مواسم الحصاد. تتأجج فى داخلى نار حيرة وقلق. تقهرنى وحدتى. اطلب محمود على الهاتف. يتوتر صوتى. يأتى صوته قلقاً، (لا شيء .. فقط أردت أن أعرف متى نعقد القرآن)، قلت له، يتهدج صوته على الجانب المقابل، (وقت ما تحددين)، يرد بفرح.

أخبرته صعوبة أن أظل فى ذات العمارة وأننى عرضت شقتى للبيع، ابتسم وناولنى مفتاح شقة يملكها فى القاهرة الجديدة، رغم صغر مساحتها جعلتها تليق بعروسين يبدآن حياتهما الجديدة، جهزتها بأحسن ما يكون الأثاث ولم يبخل على فى طلب. ساعدتني أختي وزوجها فى إنهاء الكثير من الإجراءات، خاصة أننا عقدنا القِران وسافرنا على ظهر مركب من الإسكندرية إلى اليونان وقبرص وتركيا، من ميناء إلى ميناء، تَلَفَعْنا بالشمس والبحر والحب. عوضته سنوات من الحرمان ومنحني عمراً كاد يضيع على ناصية اليأس، ولتغفر لى سلوى.
----------------
قصة قصيرة بقلم: د. محمد مصطفى الخياط

[email protected]






اعلان