13 - 05 - 2025

مدينة النار

مدينة النار

فتى مجلبب معمم كعموم المصريين آنذاك، يكاد يتعثر في خطواته صوب الأزهر ضمن قوافل الدارسين. يجلس بين يدى شيخه، حسن العطار، ينهل منه مستشرفاً علوم الدين واللغة، متطلعاً إلى كل جديد. لمح فيه الشيخ شيئاً من نبوغ فأدناه من مجلسه وقربه منه متوسماً أن يجلس مكانه ذات يوم مسنداً ظهره إلى أحد أعمدة المسجد الأزهر، قِبلة الشرق ومنارة العلم ومنتهى طموح كل راغب علم وتميز.

ما إن علم الشيخ برغبة الوالى ترشيح أحد الأزهريين لمرافقة الأفندية خلال بعثتهم الدراسية في أوربا حتى عقد النية والعزم على ترشيح الفتى موقناً أنه لن يخذله وأنه سيتخطى دوره الدينى المطلوب، واعظ يفقه أفراد البعثة في أمور دينهم ويزكيهم في شئون دنياهم ويؤمهم في صلواتهم.

حين رشحه شيخه، لم يدرك الفتى أنه سيكون أول عين عربية ترى الغرب. سبقه آخرون لكنهم لم يروا بعينيه ولم يفكروا بعقله ولم يتطلعوا إلى ما يحلم به. نزل الفتى باريس بعين نافذة متكئاً على دينه، باحثاً عن كل وسيلة للتطور وكل ملمح للتقدم فراح يدون ملاحظاته وأفكاره، وعندما أدرك أن لا فهم من غير إتقان لغة أهل البلد، كى يرطن برطانة أهلها ويفهم حديثهم ويفهموه، انكب على الفرنسية يتعلم مبادئها وأجروميتها (قواعدها النحوية) حتى صار كأهلها، بل وعلى حد تعبيره، يتقنها تحدثاً وكتابة أكثر من بعض الفرنسيس، ممن لا يقرأون أو لا يكتبون.

دَوَنَ ما شاء له الله أن يدون، وأسهب ما وجد للإسهاب ضرورة، وأوجز ما استطاع له سبيلا. فإذا ما انتهت بعثة الأفندية، وحقق كل منهم مأربه واطمأن إلى تحصيل ما بُعثَ من أجله مفارقاً الأهل والصحاب واستقر علمه في وجدانه مطمئناً إليه غير مستشعر بوحشة، حتى أفلوا عائدين يصحبهم فتاهم وأوراقه قاصدين القلعة للجلوس بين يدى الوالى، كعهده مع كل إرسالية دراسية تؤوب إلى رحاب المحروسة بذخائر العلم محفوظاً في صدور الرجال. يسمع منهم صامتاً ويهز رأسه مستحسناً حيناً ومستنكراً حيناً آخر. تعلو رأسه عمامة كبيرة غُرس في كبدها حجر كريم، دلالة السلطان والأبهة.

عندما حل دور الفتى، بدا خجولاً كعصفور بلله الندى، ثم شيئاً فشيئاً انطلق لسانه، حينها اعتدل الوالى في جلسته، فالحديث غير الحديث، والمسموع غير المألوف، والجديد خلاف المنتظر من أمثاله، والفتى الذى سافر إماماً لبعثة عاد إماماً لأمه. يقيناً أن التعليم قاطرة التقدم، انكب علىمشروع حول الأمة من غياهب الجهل إلى مسارات العلم مع مدرسة للألسن فتحت هويس ترجمة وتعريب العلوم الحديثة، ثم صحيفة يومية ما زالت تصدر حتى الآن، ذاك رفاعة رافع الطهطاوى ابن صعيد مصر الذى خرج منه الدكتور طه حسين يتلمس طريقه نحو الأزهر ثم إلى باريس ينهل من ثقافتها وآدابها فلا يسعه إلا أن يسميها مدينة (الجن والملائكة). جِنَ عميد الأدب العربى هم شياطين الفن والأدب خلاف أولئك الذين أشعلوا شوارعها وساحاتها رفضاً لرفع الأسعار لتحترق باريس ويسقط رماد حرائقها على كتاب رفاعة، "تخليص الإبريز في تلخيص باريز"، يمسح بيديه الغلاف المصنوع من جلد غزال، ينفض ركام الحرائق ورماد التطرف، يقلب صفحات لفحها لهيب الثورة، يتمشى في شوارع سان ميشيل والشانزليزيه يمر من تحت قوس النصر، تصدمه الصور، أحرقت الثورة مدينة النور لتنقلب بين ليلة وضحاها إلى مدينة النار. 
-------------------
بقلم: د. محمد مصطفى الخياط
[email protected]

مقالات اخرى للكاتب

نوتردام.. تولد من جديد