محمد أبو سويلم لم يمت ، مازال حيا يذوب قلبه عشقا فى أرضه ، يتعطر بترابها الزعفران ، يحفر ملامحها فى وجدانه ، يتعلق بها تعلق الرضيع بأمه ، يضيق صدره حينما يغادرها مضطرا، وتعود إليه الروح حينما يأتى إليها محمولا على جناحى الشوق والحنين .
محمد أبو سويلم هذه الشخصية الفريدة التى جسدها الفنان محمود المليجى فى رائعة المخرج يوسف شاهين ( الأرض ) لم تتغير ملامحه المصرية الأصيلة ، أو تتبدل قسمات وجهه الأسمر ..مازال أبو سويلم كما هو وكما نعرفه وتعاطفنا معه ، واحببناه بل وبكيناه حينما عانى من سطوة وتعذيب الطغاة والمستبدين ...لكنه لم يطأطأ رأسه ، لم ينحنى ، ظل مرفوع الرأس وفيا نقيا مخلصا لأرضه وقريته...ابو سويلم بخير وعافية ، لكنه هذه المرة موجود على أرض الواقع ، فى كل زواية وفى كل مكان على أرض المحروسة .
واهم من يظن أن أبو سويلم من النوعية التى انقرضت أو بالأحرى من التى يندر وجودها فى هذا الزمن الأغبر الذى أصبح فيه كل شئ قابل للبيع حتى فلذات الأكباد !!
فى قريتى ( قرنفيل ) إحدى قرى محافظة القليوبية رأيت العشرات من الشباب والرجال وحتى النساء من فصيلة محمد ابو سويلم ،يتطوعون وبلا مقابل لخدمة قريتهم ، يقدمون تجربة ملهمة بعيدا عن متاهات البيروقراطية الخانقة ، ودون انتظار لنواب فى البرلمان كانوا فى أيام الانتخابات ينتشرون كالجراد ، يلاحقونك فى الأزقة والحوارى وفى كل مكان تقودك إليه قدماك ، لكنهم الآن اختفوا أو تبخروا فى الهواء ، تبحث عنهم فلا تجدهم ، وكأنما تبحث عن إبرة فى كومة هائلة من القش!!
التجربة الملهمة التى يقدمها أبناء قرية قرنفيل ليست مجرد تجربة نشيد فيها بأهالى بسطاء استطاعوا بسواعدهم الفتية ، وبجهودهم الذاتية بناء مركز طبي متكامل ، لكنها ملحمة من ملاحم العطاء والحب والوفاء .
اهالى القرية كانوا يقطعون عشرات الكيلو مترات بحثا عن العلاج فى مستشفيات مدينتى بنها أو القناطر الخيرية الباهظة التكاليف ، رحلة شاقة ومضنية كان يتكبدها العجائز والأطفال والنساء وهم أمام خيارين : إما استخدام المواصلات العامة وهى على ندرتها منهكة لأجساد المرضى الواهنة، او تأجير سيارة خاصة والتى لايقدر عليها سوى المقتدرين ماديا.
من العجيب ان فقراء القرية من الفلاحين وعمال اليومية كانوا فى طليعة المتقدمين للصفوف عندما طرحت فكرة إنشاء مركز طبي يخلصهم من هذا العذاب ، جادوا بالجنيهات القليلة التى كانوا يدخرونها من قوت يومهم للمشاركة فى بناء هذا الصرح الطبي .
الأطفال وطلاب المدارس لم يبخلوا بمصروفهم اليومى ، وتبرعوا به للبناء .
الآن المركز الطبي به كل التخصصات الطبية ، يفد إليه المرضى من القادرين وغير القادرين برسوم رمزية تتناسب مع الطبقات ..حلم القرية تحول إلى حقيقة بعد ان كان فى بداية الفكرة مثار سخرية المثبطين والمحبطين ، لكن العشرات بل المئات من فصيلة ابو سويلم رموا كل هذه الترهات وراء ظهورهم وانطلقوا بكل همة وحماس لتحقيق الحلم .
الملايين من فصيلة أبو سويلم موجودون فى كل مكان على أرض مصر ، وليس فى قريتى وحدها ، لكنهم فى حاجة إلى مناخ صحى يفجر طاقاتهم وإبداعاتهم ..أبو سويلم ( عايش ) أبو سويلم لم يمت .
---------------------
بقلم: محمد عويس