14 - 05 - 2025

قنديل ونادية .. وداعاً إلى حين

قنديل ونادية .. وداعاً إلى حين

لم نكد نُفيق من صدمة رحيل الإعلامى البارز حمدى قنديل حتى فاجأنا رحيل الإذاعية اللامعة نادية صالح. حط مركب الموت مراسيه وأرخى أشرعته ريثما يصعد ركابه المنتظرون على الشاطئ، نادى الملاح كلاً بإسمه، فصعدا لا يلويان على شيء. لكل منا محطة يترجل عندها عن فرسه، لا قبل ولا بعد.

عبر الميكروفون ثم الشاشة صنع قنديل صورته في ذهن الفكر العربى. قدم برنامجه (قلم رصاص)، في تعبير مجازى يشير استخدامِه قلماً يسهل محو خطوطه وكتاباته من جهة، وقلم يصير بندقية تطلق رصاص التنبيه والتحذير. يتحدث فينساب نهر الكلمات رقراقاً من دون انقطاع. تلقائى .. فتغمرك عفويته وصدقه. يجذبك من قلبك مبتعداً عن لغو الحديث. اختلاف زوايا النظر والكشف عن أبعاد جديدة للموضوعات محل النقاش، هى أحد أدوات الإعلامى المتميز القادر على منح المشاهد آفاقاً أرحب. السباحة مع التيار سهلة، فقط اترك شخصيتك على الشاطئ ثم ألق بنفسك في البحر ومع شيء من أصول السباحة قد تحوز لقب أمير البحار. العكس هو الصعب، ضد التيار. يخطئ من يتصور أن السباحة في الاتجاه المعاكس وظيفة كل معارض. بالقطع لا. المطلوب أن تنظر بعين مختلفة نحو ذات الهدف، تتطلع من زاوية بعيدة وتتفحص من أخرى قريبة. تتحرى الدقة والحيادية. عندها تصل كلماتك إلى القلوب ورسالتك إلى العقول. هكذا كان حمدى قنديل.

لم تعرف حياته الاستقرار، بداية من دراسته في كلية الطب، ثم عدوله عنها إلى الآداب قسم الصحافة، ثم عمله صحفياً فمذيعاً لتبدأ رحلة تنوعت عبر إذاعات وقنوات تلفزيونية غادر أغلبها إما احتجاجاً على موقف أو اختلافاً في توجه أو دعوته للصمت صراحة أو تلميحاً. حقق برنامجه (رئيس التحرير) شهرة واسعة أُوقف بعدها. قدم من دبى برنامجه (قلم رصاص) مدة خمس سنوات، تلاها ظهور مؤقت على تلفزيون ليبيا، ليظل اسمه مقروناً بالصوت الأنيق والجَرْس المميز والشخصية المستقلة القادرة على إضافة مسحة جاذبية للقناة وليس العكس.

من ميكروفون مجاور، نقلت لنا نادية صالح عبر برنامجها، (زيارة لمكتبة فلان)، محتويات مكتبات شكلت وجدان وفكر أصحابها، مفكرين، سياسيين، علماء، رجال مجتمع وغيرهم. زكى نجيب محمود، مصطفى محمود، محمد عبد الوهاب، فاروق شوشة، جيهان السادات، جمال الغيطانى، توفيق الحكيم، أنيس منصور، فضيلة الشيخ أحمد حسن الباقوري، عمار الشريعى، نجيب محفوظ، صلاح جاهين، محمد محمود شعبان (بابا شارو)، صفية المهندس، يحيى حقى، سهير القلماوى، مولانا الشيخ محمد متولى الشعرواى، فهمى عمر، أحمد بهجت، الأستاذ خالد محمد خالد، عبد الحليم حافظ، سعد الدين الهلالى، مصطفى السيد، عبد العزيز حجازى، فاروق الباز، جمال بخيت، صلاح منتصر، عمر طاهر، وغيرهم. 

رحلة استمرت أكثر من ثلاثين عاماً قدمت فيها مئات الحلقات مساء كل ثلاثاء مُلقية الضوء على كتب ساهمت في صنع عقول وصياغة قوة ناعمة زخرت بها المحروسة وفاضت حتى غمرت ما حولها من بلاد. رحلت نادية مُخلفة وراءها عناوين آلاف الكتب بينما يردد الفضاء صدى صرير أبواب مكتباتها ناعياً بعد ما كان إيذاناً ببدء الحلقة لتلحق بقنديل بعد ما ترك، على مكتبه البسيط، القلم الرصاص والبراية، ينتظران عودته دون جدوى. تجاورا رغم اختلاف منهجهما الإعلامي. هى، في الظل بعيداً عن السياسة. هو، في الرمضاء، في آتون السياسة. امتلك كل منهما قوته الناعمة دون ابتذال أو إسفاف. نموذجا نجومية صنعهما العمل الجاد البعيد عن الصخب. معادلة صعبة يفتقر إليها الكثيرون من (دوشجية) الإعلام.
-------------------
بقلم: د. محمد مصطفى الخياط

[email protected]

مقالات اخرى للكاتب

نوتردام.. تولد من جديد