يبدو أنّ الحكومة المصرية قرّرتْ التخلى عن التستر وراء الأقنعة.. والتعامل مع جماهير شعبنا (ذوى الدخول المحدودة.. وذوى الدخول المعدومة، من فلاحين وعمال وصغار الموظفين) بلغة مباشرة.. وبدون تورية، أوكلام (مزوق، مزخرف وعلى استحياء كما كان فى السنوات الماضية)
وأذكر أنّ أسلوب التورية (والكلام المدهون بأقوى أنواع الزيف والخداع) بدأ فى عهد السادات، وبصفة خاصة مع بدء (سياسة الانفتاح الاقتصادى) وعلى سبيل المثال (بعد انتفاضة شهر طوبة/ يناير 1977) وتراجع السادات عن قرار رفع أسعار 18 سلعة، تنفيذًا لتعليمات صندوق النقد الدولى، ابتدع المسئولون تعبير (تحريك الأسعار) بدلا من ارتفاع الأسعار.. (وهذا التحريك) كانت نتيجته أنّ كيس الأرز الذى كان يزن كيلو، ظلّ سعره كما هو.. ولكن هذا الكيس (انسخط) وصار ثلاثة أرباع الكيلو، أى أنّ المواطن الذى كان يدفع جنيهـًـا (على سبيل المثال) مقابل كيس وزنه كيلو صار يدفع نفس المبلغ على كمية أقل مقدارها ربع كيلو.. وهو ما حدث فى باقى السلع.
استمرّ أسلوب الخداع طوال عهد السادات ومبارك.. ولكن يبدو أنّ الاجراءات القادمة المُـزمع اتخاذها.. وسوف تمس فقراء ومتوسطى الحال من شعبنا (على كافة المستويات المعيشية) هى إجراءات أشبه بالجراحات فى العمليات الخطيرة، مثل (علاج تربنة فى المخ) أو قطع ساق مصابة بالتسمم فى الدم..إلخ.. ولابد من إخطار المريض.. وبناءً على ذلك اختارتْ الحكومة أنْ تبدأ (جس النبض) بقطاع التعليم.
وإذا كان البعض أبدى دهشته من جرأة وصراحة وزير التعليم عن (مجانية التعليم) فإننى لم أندهش.. وكنتُ أتوقع الجراحة الخطيرة، منذ بدأتْ حكومات السادات ومبارك المتعاقبة فى سياسة (تخفيض ميزانية التعليم فى الموازنة العامة للدولة) بالتدريج تنفيذًا لتعليمات/توصيات/أوامر صندوق النقد الدولى.. ويبدو أنّ ضغوط الصندوق الاستعمارى الأخيرة، كانت صريحة ومؤداها أنه يجب على الحكومة المصرية، التخلص من أسلوب التدرج فى رفع كافة أشكال دعم الفقراء، والبدء فى أسلوب الالغاء الكامل.. ولتكن البداية مع منظومة التعليم الحكومية.
وبناءً على ما تقـدّم صرّح وزيرالتعليم (طارق شوقى) أنّ التعليم لايجب أنْ يـُـترك بلا نقاش.. وطالب بضرورة الإجابة على بعض الأسئلة مثل: مجانية التعليم لمن؟ وهل المجانية لمن يـُـنجب طفليْن.. ولمن ينجب عشرة أطفال؟ (هكذا!!) الوزير قال ذلك تحت قبة البرلمان المصرى، فى اجتماع لجنة المشروعات الصغيرة والمتوسطة، برئاسة محمد كمال مرعى.. واعترف الوزير بأنّ الفصول التى بها أكثر من مائة تلميذ (ليست كثيرة) وأنّ الوزارة تعمل على أنْ يكون أقصى عدد فى الفصل سبعين تلميذًا.. وإذن فإنّ الوزير يعترف بوجود فصول بها أكثر من 100 تلميذ.. وهو عدد لا يسمح للتلميذ بأدنى فرصة للانتباه والتركيز مع شرح المدرس (بفرض حدوث الشرح المستحيل مع هذا العدد) وحتى العدد المُـزمع أنْ يكون فى المستقبل (70تلميذًا فى الفصل) فهوعدد غير إنسانى ولن يختلف كثيرًا عن عدد المائة.
المثير للانتباه أنّ الوزير تكلم عن (اقتصاديات التعليم) وكأنه يتكلم عن اقتصاديات الاسمنت أوالحديد المسلح.. وأعتقد أنّ أخطر جملة قالها هى: إنّ الواقع التعليمى فى مصر مُـخالف للدستور.. وكان تبريره لسبب المخالفة عندما قال: كيف سنواجه التكلفة؟ (شماعة عجز الموازنة) وكان صريحـًـا عندما خالف الدعاية السائدة طوال أكثر من 60 سنة عن مجانية التعليم بعد يوليو1952حيث قال: إنّ مجانية التعليم المنصوص عليها فى الدستور لم تتحقق.
وأعتقد أنّ ما يؤكد ظنى عن (جس نبض الجماهيرعن نية الحكومة نحو إلغاء المجانية، أنْ تنشر أكبر صحيفة حكومية كلام الوزير.. وبصفة خاصة قوله: إنّ الأفكار القديمة أضرّتْ بالتعليم، مثل المجانية.. وأكــّـد أنّ المجانية تعمل على ((ترسيخ الظلم الاجتماعى)) وأشار إلى أنّ تكلفة التعليم 200 مليار جنيه كل سنة، تدفع الحكومة 89 مليارا.. والمواطنون يدفعون بقية المبلغ على الدروس الخصوصية (أهرام 11 نوفمبر 2018)
وأعتقد أنّ الجزء الأخير من كلام الوزير كاشف وفاضح لخطوات المستقبل، لأنه أسدل الستار على مرحلة جاوزتْ الستين عاما (لو كان المقياس منذ يوليو 52 ومع استبعاد الفترة السابقة على يوليو 52 وبصفة خاصة فى عهد عميد الثقافة المصرية (طه حسين) وشعاره الأثير: التعليم كالماء والهواء) بعد القضاء على (العهد البائد، عهد طه حسين ومجانية التعليم) جاء الوزير طارق شوقى ليهدم تلك المراحل من تاريخ مصر الحديث، التى وصفها (بالأفكار القديمة التى أضرّت بالتعليم ومنها المجانية.. ليس ذلك (فقط) وإنما أضاف جملة تحتاج لعلماء النفس وعلم الاجتماع لتحليل عقلية الوزير الذى يرى أنّ المجانية ((تعمل على ترسيخ الظلم الاجتماعى)) أى أنّ سيادته عكس وقـَـلـّـبَ السائد فى كافة فروع العلوم الإنسانية عن أنّ مجانية التعليم، إحدى وسائل ((تحقيق العدالة الاجتماعية)) كما أنّ سيادته وهو يذكر أرقام تكلفة التعليم، لم ينتبه لخطورة كلامه عن (تقصير كل الحكومات السابقة.. وعجزها عن مكافحة (ظاهرة الدروس الخصوصية) على مدار عشرات السنين.. وبصفة خاصة منذ عهد السادات.. ولم يسأل الوزير السؤال البديهى: لماذا تقاعستْ كل الحكومات المصرية عن مجابهة فيروس الدروس الخصوصية؟ ولصالح من ساعدتْ على تكوين (مافيا) أو عصابة الدروس الخصوصية، تلك العصابة التى تجمع من جيوب الأهالى مبلغ 111 مليار جنيه كل سنة؟
وإذا كانت الحكومة قد قرّرتْ رفع الراية البيضاء أمام هجوم صندوق النهب الدولى الكاسح.. والاستسلام والخضوع لأوامره، المُـغلــّـفة بكلمة (توصيات) وأنّ علاج عجز الموازنة يكون على حساب ملايين البسطاء/الشرفاء/المُـنتجين.. والبداية بإلغاء مجانية التعليم، فى هذه الحالة يكون شعار الوزارة: التعليم لمن استطاع إليه سبيلا.
------------------------
بقلم: طلعت رضوان