14 - 05 - 2025

غروب النهار

غروب النهار

تختلف صباحات باريس عن غيرها من المدن، صباحات رمادية تغيب شمسها لكثير من الوقت، وأحياناً تنسى أن تصحو وكأن سطوعها فى بقعة أخرى أنساها عملها فى باريس، تختلط رائحة ضبابها بنكهة القهوة الفرنسية، وربما امتزجت بحجارتها وشوارعها من كثرة ما يشرب الفرنسيون من قهوة، ليس فى الصباح فقط، بل وفى العشاء، وربما قبل النوم، وكأنها ترياق ضد الأرق.

كانت باريس أول وجهة خارجية أقصدها، منذ أكثر من خمس وعشرين عاماً، ذهبت وفى صدرى روايات توفيق الحكيم وأيام طه حسين ورسوم يوسف فرنسيس وشاعريته وإبداعات فيكتور هوجو وجى دى موباسان، وغيرها. نزلت بفندق متوسط الحال يطل على ميدان ومبنى البانثيون، مقبرة العظماء، حيث رفاة مفكرى وقادة ونبلاء فرنسا منذ القرن الثامن عشر، يتوافد عليه السائحون من كل مكان بينما أراه بكل تفاصيله من نافذة غرفتى وأرى شوارع الحى اللاتينى بأرضياته الحجرية، بينما تجثم جامعة السوربون خلف الفندق، أقدم جامعات العالم، بنيت فى القرن الثالث عشر وامتد تأثيرها إلى زوايا العالم المتقدم والنامى عبر بعثات الطلاب، أبرزهم الدكتور طه حسين، عميد الأدب العربى، والشيخ عبد الحليم محمود، شيخ الأزهر والصوفى العلامة، والدكتور عبد الرازق السنهورى، أبو الدساتير العربية، وأحمد شوقى، أمير الشعراء. 

يمر الطريق إلى محطة مترو سان ميشيل بمكتبات وأكشاك بيع الكتب، يتوقف بعض المارة أمام بعض العناوين ثم لا يلبثوا أن يمدوا أيديهم فى جيوبهم لينقدوا البائع بعض الفرنكات، لم تكن الإنترنت قد انتشرت، ولم تكن خدمة الأخبار العاجلة قد حاصرتنا بعد. لا هواتف محمولة، فقط جهاز نداء آلى (بيجر)، يُثبت فى حزام الخصر ليخبرك، عبر شاشته برقم من يحاول الاتصال بك، كان حينها ثورة، ثم ما لبثت أن أُلقي فى زوايا النسيان أمام تسونامى المحمول الذى لا تتوقف قدراته عن التوسع وقضم وظيفة أو أكثر من وظائف أجهزة أخرى، لا تلبث أن تنزوى عن محيط أعيننا. غاب المنبه من غرفة النوم، وغابت الصحيفة من غرفة المعيشة، ونسى الكثيرون حل الكلمات المتقاطعة والسو دو كو، وتحولوا إليها عبر شاشات هواتفهم. 

عصفت التكنولوجيا الرقمية بالمطبوعات الورقية.

حرصت خلال إقامتى في بيروت على تمشية صباحية على الكورنيش تمتد من أمام نادى يخوت سان جورج حتى المنارة. يتحول الممشى إلى خلية نحل من بعد صلاة الفجر إلى حوالى الثامنة، شباب وشيوخ، صبايا وسيدات، يتحلقون حول قهوة الصباح مع بعض من المخبوزات اللبنانية الشهية، أو للرياضة، مشاة بأمر السن والحالة الصحية، ومهرولون في أواسط العمر، وعدائين من الشباب. يتوقفون من حين لآخر أمام المصاطب الرخامية المرصوص عليها جرائد الصباح، فيشترى من يشترى ويمضى من يمضى. 

بنهاية عام 2016 أغلقت جريدة السفير اللبنانية أبوابها لأسباب مالية بعد أكثر من أربعين عاماً من العمل الصحفى، وفى يوليو الماضى أغلقت جريدة الحياة اللندنية مكتبها ببيروت لذات الأسباب، فيما صدرت جريدة النهار منذ أيام بصفحات بيضاء احتجاجاً على تأخر تشكيل الحكومة، فيما تتردد أصداء عن مشاكل مالية تهدد بقرب غروبها بعد أكثر من ثمانين عام من بدء إصدارها. ما كنت أظنها عادات صباحية لا تنقطع عن كورنيش بيروت أتابعها في زياراتى المتباعدة كنستها أمواج التغيير، قطعت بعض الأكشاك الحديثة اتصال الممشى، بينما ما زال يقف كهل نحيف الجسم يحتمى بملابسه الشتوية من رياح البحر ورذاذ موج لا يكف عن معاندة الشاطئ، خلف بعض الجرائد منتظراً زبائنه الذين يتناقصون يوماً بعد يوم.
 ---------------------------

بقلم: د. محمد مصطفى الخياط


منشور في العدد 263 من المشهد الأسبوعي

مقالات اخرى للكاتب

نوتردام.. تولد من جديد