14 - 05 - 2025

الخيط الرفيع

الخيط الرفيع

في زيارة لفرنسا أوائل التسعينات وفى الطريق إلى نيس، أشار مرافقى الفرنسى نحو إحدى التباب قائلاً (هنا يقيم العماد ميشيل عون). غادر العماد عون، وزير الدفاع آنذاك، لبنان إثر تسوية قضت بخروجه إلى فرنسا مع انتهاء الحرب الأهلية اللبنانية. 

سنوات طويلة بلغت خمسة عشر عاماً قُبيل عودته ثانية، نجح خلالها في البقاء خارج حدود الظل. ورقة ذات حضور وتأثير وبديل جاهز حال تطور الأزمات. كان العام 2005 فارقاً في حياة لبنان، اغتيل الشيخ الرئيس رفيق الحريرى وعاد ميشيل عون من منفاه ودخل البرلمان زعيماً لكتلة التيار الوطنى الحر وبقى فيه حتى ترشحه للرئاسة وانعقاد البرلمان اللبنانى لأكثر من أربعين جلسة على مدى عامين ونصف، خلا فيها منصب الرئيس، تم اختياره رئيساً للبنان وتولى سعد الحريرى رئاسة الوزراء في نوفمبر 2016. 

قبل اكتمال عامه الأول بأيام، أعلن الشيخ سعد استقالته من الرياض. فرض الحدث/الصدمة نفسه على الجميع. ثارت تساؤلات عن التوقيت والمكان والملابسات والأسباب. بدت غيوم في الأفق وضباب كثيف، وفى الخلفية ثمة صوت رعد، وإن بدا خافتاً إلا أن صداه بات مسموعاً. 

في زيارة خاطفة إلي الرياض التقى الرئيس الفرنسى ماكرون سعد الحريرى، ليعلن الأخير نيته مغادرة الرياض إلى باريس خلال أيام. لم تنس فرنسا أن لبنان كانت يوما أحد غنائمها. خيط رفيع يربط فرنسا بمواطن مستعمراتها القديمة، في زيارة لجيبوتى، البلد الجغرافيا، صمام أمان باب المندب، البوابة الجنوبية المقابلة لقناة السويس، المطلة على خليج عدن، ومعبر إثيوبيا إلى البحر، هناك تتمركز قاعدة فرنسية على مساحات شاسعة ومبان حديثة تُشعرك بالفارق الزمنى بينها وبين بلد متواضع الإمكانات. 

لا ماء، لا نفط، لا غاز، فقط موقع جغرافى، يكاد يكتسب لقب الفلتة الجغرافية، الذى منحه العلامة جمال حمدان، من قبل، للمحروسة، الممتدة على قارتين، المالكة لمدخل البحر الأحمر، وشواطئ على البحر الأبيض، مستقر نهر النيل، الجامعة للوطن العربى، الحاصدة لعصارة تاريخ إفريقيا وآسيا وأوربا. خيط رفيع آخر امتد إبان العصر الفرعونى من المحروسة إلى جيبوتى، ولكن شتان في العلاقة. 

الأول، فرنسا – جيبوتى، استعمارى النمط، بينما الثانى مع مصر عمق استراتيجى وقوة ناعمة عبر رحلات بحرية تجارية. وقت تجاذب العالم قوتين عظميين وقعت البوابة الجنوبية للبحر الأحمر، جيبوتى، في حصة فرنسا بينما وقعت البوابة الشمالية، مصر، في نصيب انجلترا. قسمة تراعى عدم استئثار قوة عن غيرها بالمجرى المائى الاستراتيجي، نحو 10% من التجارة العالمية، وبوابة مرور خمسة ملايين برميل بترول يومياً. 

مع تغير الحال وتراجع موقف فرنسا وانجلترا وتقدم أمريكا، سعت الأخيرة إلى إنشاء قاعدة عسكرية لها تمثل وكر الطائر ونقطة الإغاثة والوصول إلى المناطق المحيطة، فللجغرافيا حضور لا يمكن تجاوزه. 

مع تنامى قوة الاتحاد الأوربى، أنشأت إسبانيا وألمانيا، وبمباركة فرنسية، قاعدتان لهما، أو بالأحرى شاركتا فرنسا قاعدتها مع التنسيق بين الشركاء الثلاثة، مراقبة المضيق وما يحيط به من مناطق، فيما بعد أنشأت الصين قاعدة عسكرية ضمن اهتمامها بالقرن الإفريقي وبدورها المنتظر عالمياً. 

في مساحة تتجاوز الثلاثة وعشرين ألف كيلو متر بقليل تتمركز خمس دول، لكل منها أجندتين، إحداهما معلنة والأخرى سرية، يربط بينهم خيوط رفيعة أحياناً تبدو اقتصادية، وأحياناً ذات صبغة عسكرية، وأحياناً بعد استراتيجى، ومع هذا يحافظ الجميع على الخيط الرفيع سليماً متصلاً، وكما قال معاوية بن أبى سفيان، إن أرخوه شددته وإن شدوه أرخيته.
 ---------------------------

د.محمد مصطفى الخياط

[email protected]
آ 

مقالات اخرى للكاتب

نوتردام.. تولد من جديد