يبدو أنّ (غريزة الدهشة الفطرية) التى يمر بها الإنسان، عندما يسمع خبرًا غير متوقع.. يـُـفاجأ بأنّ ما كان يظن أنه لايمكن حدوثه، إذا به تحقق على أرض الواقع، أكتب ذلك بمناسبة ارتفاع سعر البطاطس.
كنتُ فى طفولتى أسمع تعبير(مجنونه يا قوطه) بسبب ارتفاع سعرها عن الحد غير المألوف، بالرغم من أنّ ارتفاع السعر كان فى حدود غير مـُـبالغ فيها (بضعة قروش) كما أنّ الوضع يعود إلى طبيعته بعد أسبوع أو أسبوعيْن على أكثرتقدير، ولكن ما قرأته عن البطاطس فاق كل التوقعات، ففى مـُـنتصف أكتوبر 2018 وصل سعر كيلو البطاطس (فى الأحياء الشعبية) إلى12جنيها.. وبعد يوميْن وصل إلى 14جنيها ثم قفز إلى16 جنيها.. كثيرون امتنعوا عن الشراء (بالرغم من عشق أطفالهم للبطاطس المحمّـره) والتى تكون فى حقيبة المدرسة.. إذن مـُـقاطعة أولياء الأمور كانت (إجبارية) بسبب دخولهم المُـتدنية.. وذلك بعد أنْ قاطعوا الفاكهة (الرخيصة مثل البلح وليس التفاح أو الكمثرى التى أصبحتْ من الثمار المُـحرّمة على الفقراء)
وكنتُ أتوقع (من فرط سذاجتى) أنّ ارتفاع سعر البطاطس لن يستمر طويلا، وكلها أيام ويعود السعر إلى وضعه الطبيعى.. وأنّ البطاطس لن تكون (مجنونة) مثل الطماطم.. وإذا بى أتلقى الصدمة المُـروّعة عندما قرأتُ أنّ سعر كيلو البطاطس سيصل إلى40 (أربعين جنيهـًـا) خلال أيام.. والخبر جاء على لسان د.محمد عبدالرحمن السعيطى (رئيس المجلس القومى للتنمية الزراعية وشئون المصدرين) الذى حمّـل وزارة الزراعة المسئولية الكاملة عن أسباب ارتفاع سعرالبطاطس والطماطم، لعدم قيامها بدورها المنوط بها.. وهوخدمة المزارعين والفلاحين..وتوفيرمناخ مناسب لهم.. وأضاف أنّ معاناة الفلاحين (عرض مستمر) لم يـُـكتب له النهاية، فأصبحتْ مشاكل الفلاحين متكررة فى كل موسم، حيث أنّ وزارة الزراعة لاتوفر لهم التقاوى المناسبة للبيئة المصرية.. والكارثة أنّ مركز البحوث الزراعية أصبح لايؤدى دوره فى إنتاج التقاوى، الأمر الذى جعل مصر تستود ما يقارب 85% من احتياجات الزراعة المصرية من التقاوى.. وأدلى سيادته بمعلومة غاية فى الخطورة، حيث قال: إنّ تقاوى الطماطم المستوردة (تسببت فى خسائر باهظة وفادحة لآلاف الفلاحين..وهذا هو السبب فى ارتفاع سعر الطماطم..ولكن الإضافة الأكثر خطورة عندما حذر قائلا أنّ ارتفاع سعر البطاطس سيصل إلى40 (أربعين جنيهًا) للكيلو بسبب سياسة وزارة الزراعة الخاطئة، تجاه الفلاحين الذين امتنعوا عن زراعة البطاطس، بعد الخسائر التى لحقتْ بهم فى الموسم الماضى..وأضاف- كذلك- إنّ سياسة وزارة الزراعة- بالنسبة لتوزيع الأسمدة، أثــّـرتْ بشكل سلبى على الفلاحين، الذين يضطرون إلى الشراء من السوق السوداء، بأسعارمرتفعة، بسبب عدم تواجد الأسمدة فى الجمعيات الزراعية (جريدة مصراوى- 24 أكتوبر2018)
قرأتُ هذا الخبرالمُـطوّل على لسان إنسان شريف..وفى وجدانه درجة عالية من الرقى والنــُـبل الإنسانى.. ولكنه بحكم منصبه الرفيع (رئيس المجلس القومى للتنمية الزراعية وشئون المُـصدرين) شعر (بمسئوليته الإنسانية) قبل (مسئوليته الوظيفية) فأدلى بهذا التصريح الخطير الذى يؤكد استهتار الحكومة بالغالبية العظمى من جماهير شعبنا، ذوى الدخول المُـنخفضة.. ولم يهتم أحد من المسئولين بوقف تلك الكارثة..ولم يسأل نفسه السؤال الطبيعى: بماذا تطبخ السيدة الفقيرة (بمراعاة أنّ كثيرين من الأغنياء ليست لديهم مشكلة، لوبلغ سعر كيلو الطماطم مائة جنيه، أوبلغ سعر كيلو البطاطس ألف جنيه) وبمراعاة أنّ تلك السيدة الفقيرة تــُـدبـّـر بالكاد ثمن رغيف العيش وطبق الفول.
وللأمانة اهتـمّ وزير التموين بموضوع ارتفاع سعر الطماطم فقال: إنّ الكثيرمن شعوب بعض الدول، لايستخدمون الطماطم فى الطبيخ، فعلــّـق علي تصريحه أحد ظرفاء الفيسبوك بطريقة ولاد البلد الساخرة قائلا: يظهر إنهم بيطبخوا بعصير الفراولة؟!
ولكن ماذا عن البطاطس: هل ستترك الحكومة موضوع ارتفاع سعرها يتفاقم؟ وهل ستستسلم للمتوالية التى حذّر منها رئيس المجلس القومى للتنمية الزراعية، الذى تنبـّـأ (بحكم تخصصه ومعلوماته) أنّ سعر الكيلو سيصل إلى 40جنيهـًـا؟ وهل يستمر (مسلسل إهمال الفلاحين) وتركهم فريسة لمافيا استيراد التقاوى غير المناسبة للتربة المصرية، أوالتقاوى الفاسدة.. وتركهم فريسة لمافيا استيراد الأسمدة؟
لقد كتبتُ أكثرمن مرة.. وكتب غيرى، عن الحقيقة المؤكدة والمعروفة لدى أصغر باحث فى شئون الاقتصاد الزراعى، أنّ الولايات المتحدة الأمريكية ودول أوروبا والهند والصين واليابان وبعض دول أمريكا اللاتينية، تتولى تقديم الدعم الكامل للمزارعين، ليس على قاعدة (الحب الرومانسى لسواد عيونهم) وإنما من أجل الارتفاع (بمستوى الاقتصاد القومى) والذى يأتى نتيجة تصدير الفائض عن احتياجات السوق المحلى.. وأنّ هذا التصدير ينتج عنه (تلقائيـًـا) مليارات الدولارات من الدول المُـستوردة للمحاصيل الزراعية.. وبالتالى يحدث التحسن فى الميزان التجارى.. وميزان المدفوعات.. وهوما يعنى التحسن فى الموازنة العامة للدولة.
فهل ينتبه المسؤولون المصريون إلى هذه المعادلة البسيطة: دعم الفلاح يعنى دعم الاقتصاد القومى؟ أم سيتواصل مسلسل الجنون: من الطماطم إلى البطاطس إلى الباذنجان..وإلى كل ثمار طعام الفقراء؟