14 - 05 - 2025

غرور حـواء

غرور حـواء

يقول الكاتب الفلسطينى وليد الشُرفا في روايته وارث الشواهد (إن الثغور التى يحفرها الحزن والألم في النفس لا تعود للامتلاء عند زوال أسباب هذا الحزن ونعود للفرح). تفسر هذه الكلمات لماذا تتحول النفس إلى غربال يملؤه الزمن بثقوب الألم، يتبارى في نقشها عشاق الأذى الممتنين بانكسار الآخرين، ينقشون حروفهم الأولى إلى يمين إبداعات ثقوبهم، فلما كَثُرَت مَلّوا الكتابة وتفرغوا لمزيد من الثقوب.

قال المتنبى (فَصِرْتُ إذا أصابَتْني سِهامٌ.. تكَسّرَتِ النّصالُ على النّصالِ) أى أسى وأى معاناة تحملها شاعرنا الأعظم وعبر عنها ببيان جامع مانع، وإن قَتله بيانه حين قال (الخيل والليل والبيداء تعرفني ... والسيف والرمح والقرطاس والقلم). ذلك أن لصوصاً هاجموا قافلة كان فيها، فحاول الهرب طلباً للنجاة، فهتف به ابنه، وكان ممن ثبتوا في وجه اللصوص، قائلاً: ألست القائل، ثم ذكر البيت. فما كان من المتنبى إلا أن لوى عنق فرسه وراح يقاتل قُطاع الطرق حتى قُتل، فعُرف بالبيت الذى قتل صاحبه.

وإذا كان هناك من الشعر ما قتل صاحبه فهناك أيضا من الحب ما قتل، يُروى أن الأصمعى، أحد علماء اللغة في القرن الثامن، قرأ البيت التالى على أحد الجدران، (أيا معشر العشّاق بالله خبروا ... إذا حلّ عشقٌ بالفتى كيف يصنعُ)، فما كان منه إلا أن زاد بيتا، فما جاء اليوم التالى إلا ووجد رداً بشعر، وهكذا حتى كتب في اليوم الثالث (إذا لم يجد الفتى صبرًا لكتمان أمره ... فليس له شيء سوى الموت ينفعُ)، فما جاء اليوم الرابع إلا وشاب مقتول إلى جوار الجدار وقد كتب (سمعنا أطعنا ثم متنا فبلّغوا ... سلامي إلى من كان للوصل يمنع).

وسواء أكان الشعر أو الحب سبباً للموت فالنهاية واحدة، يقول ابن نباته السعدى، (ومن لم يمت بالسيف مات بغيره ... تعددت الأسباب والداء واحد)، وقد رُوىَ البيت باستبدال كلمة (الداء) بـ (الموت)، وسواء هذه أو تلك، فقد أصاب واستحق وصل سيف الدولة الحمدانى، وكان أميراً على شمال سوريا وأجزاء من غرب الجزيرة العربية، وأن يكون أحد ناصحيه والمقربين منه.

حرص سيف الدولة على جمع الشعراء حوله فعاش المتنبى في كنفه تسع سنين وكذلك ابن عمه أبو فراس الحمدانى، الفارس والشاعر الفذ. على إثر مواجهات متكررة بين الروم وجند سيف الدولة أُسر أبو فراس لنحو ثلاث سنوات ألف فيها ديوانه الروميات من نحو خمس وأربعين قصيدة عبر فيها عن أحواله جميعا، فارس شاعر أسير وعاشق، ولعل أشهرها قصيدته أراك عصى الدمع، والتى تعتمد على نمط الحوار الذى تميز به شعره، في أحد هذه الحوارات يصف تعجب محبوبته من صبره وسيطرته على نفسه، فلا يذرف دمعه، ولا يبوح بسر، يملأه عز وكبرياء:(أرَاكَ عَصِيَّ الدّمعِ شِيمَتُكَ الصّبرُ.. أما للهوى نهيٌّ عليكَ ولا أمرُ؟ ،، بلى أنـا مشــتاقٌ وعنديَ لــوعة .. ولكنَّ مثلي لا يذاعُ لهُ سرُّ!).

على الرغم من الحوار السهل الممتنع الرائع الممتد في فضاءات القصيدة، بينه وبين محبوبته، إلا أنها لا تتورع أن تُنكِره إنكاراً فيه استعلاء وغرور، متجاهلة ما بينهما من ود، ومع هذا يسايرها ويُرضى غرورها مُجيباً (قتيلك)، فيزيدها رده كِبراً ونكراناً ،، (تساءلني:"منْ أنتَ؟"، وهي عليمةٌ ... وَهَلْ بِفَتى مِثْلي عَلى حَالِهِ نُكرُ؟،، فقلتُ، كما شاءتْ، وشاءَ لها الهوى ...آ  قَتِيلُكِ! قالَتْ: أيّهُمْ؟ فهُمُ كُثرُ). يا إلهى، أى غرور هذا الذى جُبلت عليه حواء.

------------------
بقلم: د. محمد مصطفى الخياط
[email protected]

مقالات اخرى للكاتب

نوتردام.. تولد من جديد