25 - 04 - 2024

هل يمكن معالجة التطرف بالتصوف

هل يمكن معالجة التطرف بالتصوف

يعانى المجتمع العربى عامة والمصرى خاصة من التطرف. وكم من الدماء تسيل من المتطرفين ومن قوات الأمن. وهى دماء عربية مصرية. لا فرق بينها فى اللون أو الرائحة. والكل حزانى سواء احتفلت الدولة بالشهداء أم لم تحتفل، وهم غالبا أبرياء، هم ونساؤهم وأطفالهم وأسرهم. وقد وضع الإعلام سؤالا: هل يمكن معالجة التطرف بالتصوف؟

فماذا يعنى التطرف؟ المقصود هو التطرف الدينى أى الخروج على النظام الاجتماعى، فى لباسه وقوله وعمله، واللجوء إلى العمل السرى المسلح تحت الأرض والخلايا المجهولة المكان والزمان والأفراد للتعبير عن النفس بعد أن استعصى التعبير العلنى. مدان إذا كان سرا، ومدان إذا كان علنا، فينفجر فى نفسه أولا قبل أن ينفجر فى الآخرين، ويفجّر نفسه مع البيئة الاجتماعية التى يعيش فيها، كنيسة أو مسجدا أو دار أمن أو أى تجمع لتكبيد النظام السياسى أكبر خسائر ممكنة. تهز صورته فى الداخل والخارج، فالتطرف الدينى فى حقيقته رد فعل على التطرف السياسى، تطرفا بتطرف. لا يعالج بتجديد الخطاب الدينى الكلامى ولا بمزيد من قوات الأمن على الهيئات الرسمية بل بمعالجة جذوره وأسبابه كما يفعل علماء أصول الفقه بالبحث عن العلل.

أما التصوف فإنه يعنى باختصار الهروب من العالم الخارجى العصى على التغيير إلى العالم الداخلى، وهو أوسع وأرحب. وبعد العالم الداخلى يتم الارتفاع إلى العالم العلوى ليتم النصر فيه، حقيقة أم خيالا. هكذا نشأ التصوف عندما صعبت مقاومة بنى أمية الذين استولوا على الحكم، ونقلوه من المدينة إلى دمشق، ورفض عرضهم بين العصا أو الجزرة. فإن قبل الجزرة عاش ونال الحظوة. ومن واجه العصا مثل الحسين استشهد وجزت رأسه. وأرسلت من كربلاء إلى دمشق. ورأى هؤلاء العودة إلى داخل النفس والشكاية إلى الله، العادل الذى لا يظلم. وأقاموا أحوالهم ومقاماتهم، الصحو والسكر، الغيبة والحضور إلى آخر هذه الثنائيات، ثم الزهد والرضا والتوكل والشكر التى تبين درجات السلم للوصول إلى دار الفناء. وقد شجع الأمويون هذا الاتجاه الثالث لبعده عن السياسة كما تفعل جماعة «مؤمنون بلا حدود» الآن بتمويل خليجى. فإنقاذ النفس مقدم على إنقاذ العالم. والعجز عن فهم العلل أو مقاومتها يؤدى إلى الهروب منها إلى عالم متخيل يتم النصر فيه. لا يذهب الصوفى إلى الكعبة عجزا بل تأتى الكعبة إليه نصرا. والتوجه إلى الواحد القهار العادل خير من البقاء مع الحاكم القهار الظالم. وليس أمام المعارض السياسى إلا الهجرة إلى الله أو الهجرة خارج الأوطان كما فعلت الإباضية وهجرتهم إلى جنوب الخليج العربى. يؤسسون حكما عادلا. لا يستشهدون فى مقاومة الحاكم الظالم ولا يرضخون تحته.

فما الحل؟ هل تستطيع القوة أن تقضى على التطرف أى هل يمكن القضاء على عنف الجماعات المتطرفة بعنف مماثل، عنف الشرطة ورجال الأمن، وهو ما يحدث الآن؟ الحل هو الحوار السياسى بين الحاكم والمحكوم أو الحوار الاجتماعى بين طرفين متخاصمين. يعبر كل طرف عن رأيه ثم الوصول إلى رأى مشترك. يتحول الخصمان فيه إلى صديقين. ولا يبدأ الحوار فى جو من الاستبداد السياسى وإلا تحول الخصم السياسى إلى خلية سرية تحت الأرض تنتظر الفرصة المواتية لممارسة العنف وتحويل الصوت المكتوم والعضب المكبوت إلى انفجارات تتعدد أشكالها. وبعد الحوار الوطنى يتم الاشتراك فى إدارة البلاد، مشاركة لا مغالبة، فالمسؤولية تقع على أكتاف الجميع.

أما التصوف فهو تفريغ المجتمع من حركته السياسية. استبداد من طرف الحاكم وهروب من طرف المحكوم، وكلما اشتد الاستبداد اكتفى المتصوف بالدعاء لله كى ينصر المظلوم على الظالم، فالقاهر فى السماء أقوى وأعظم وأشد من القاهر فى الأرض، فلو حدث أن استطاعت جماعة ثورية من الضباط الأحرار كما حدث فى يوليو 1952 أو مجموع الشعب انتفض كما حدث فى يناير 2011 قيل أنه نتيجة دعوات الصوفية، وتوجههم إلى الله، وجلب الانتقام. التصوف نقيض الثورة. والثورة نقيض التصوف، لذلك عندما أتى صلاح الدين ليحرر الشام من غزوات الصليبيين واحتلال القدس انطلاقا من مصر، طهرها أولا من الصوفية باعتبارهم طابورا خامسا للعدو، فالحب الإلهى فى قلوب الصوفية يجعل كل البشر أحبابا. ويحسن الصوفية استقبال العدو قائلين أهلا بأحباء الله! وكما قال ابن عربى فى أبيات شعره الشهيرة:

لقد كنت قبل اليوم أنكر صاحبى/ إذا لم يكن دينى إلى دينه دانى

وقد صار قلبى قابلا كل صورة/ فمرعى لغزلان ودير لرهبان

وبيتٌ لأوثــانٍ وكعـــبةُ طـائــــــفٍ/ وألـواحُ تـوراةٍ ومصـحفُ قــــــرآن

أديـنُ بدينِ الحــــبِ أنّى توجّـهـتْ ركـائـبهُ/ فالحبُّ ديـنى وإيـمَانى

الطرق الصوفية هى جزء من الفنون الشعبية، والتصوف هجرة إلى الله مثل هجرة العقول خارج الأوطان للبحث عن إمكانيات أفضل للبحث العلمى دون تطوير لما هو موجود بالداخل، ومثل هجرة الشباب الشرعية أو اللاشرعية خارج البلاد بحثا عن رزق أفضل، فلا يجدون إلا التسول أو القبض عليهم أو الموت غرقا، ومثل هجرة المعارضة السياسية خارج أوطانها، فلا تملك إلا المعارضة بالكلام من خلال أجهزة الإعلام، وكلها هروب من المواجهة.

محاربة التطرف بالتصوف هو محاربة التطرف السياسى بالتطرف الدينى، وكلاهما تطرف. التطرف السياسى هو الاستبداد. والتطرف الدينى هو التصوف. الأول يعرف ماذا يريد، ويريد المزيد. والثانى يهرب مما يعرف باحثا عن معرفة أعظم. وفرق بين الحقيقة والخيال، بين الواقع والوهم.
 ---------------

بقلم: د. حسن حنفي

مقالات اخرى للكاتب

ماذا يعني قول المسلم





اعلان