وقفنا مع آخرين على الرصيف ريثما يتغير لون ضوء إشارة المرور إلى الأخضر، مال على مرافقى الدنمركى قائلاً، هل ترى الرجل ذو المعطف الأسود في الناحية المقابلة. (نعم) أجبته مع هز رأسى، (إنه وزير التجارة)، أردف معقباً. نقلت رأسى بينه وبين الرجل المنتظر توقف حركة السيارات كى يعبر هو وآخرين، لا يقطع انتظاره إلا بعض المارة يمدون أيديهم إليه بالسلام مع كلمات عابرة سريعة يبش لها وجهه وربما ربت على كتف محدثة أو شد على يده. استغرقت في المتابعة لأنتبه وجارى ينبهنى بلطف أن اتحرك فقد تغير لون الإشارة.
ما زال شهر فبراير يؤكد فعالية فصل الشتاء وسطوة برودته، بدرجة حرارة تغازل الصفر درجة مئوية، وثلج يمتد على جانبى الأرصفة، ورياح باردة تسفع الوجوه فتحمر الأنوف، بينما تسبح طيور الغُر بريشها الأسود اللامع ومناقيرها المدببة وجبهتها البيضاء فى البحيرة مدققة في عمق الماء لتنقلب فجأة رأساً على عقب فيرتفع ذيلها عن بينما تُجدف بقدميها المائلة للإصفرار، وسرعان ما تعتدل يتدلى من مناقيرها صغار أسماك السردين والشبوط محاولة الإفلات، تبقيها قليلا معلقة في مناقيرها كأنما تستملح طعمها أولاً ثم لا تلبث أن تقذفها إلى جوفها لتبدأ جولة جديدة من البحث عن أسماك أخرى، أو الوقوف للاستراحة على بعض كتل الثلج الطافية على سطح البحيرة.
يخيم على المدينة جو رمادى كئيب يبعث في النفوس انقباضاً بينما ينفذ البرد إلى الجسم فيزيده انكماشه. عِوضاً عن عدم رغبتى لبس القفاز، دسست كفيي في جيوب المعطف القصير ورفعت قلنسوته اتقاء نتف الثلج المتساقط، متسائلاً بيني وبين نفسى أين هذا من شمس المحروسة الذهبية وعباءتها الفضفاضة تخبئ فيها بنيها وتحنو عليهم.
كان أحد ايام الآحاد، عندما اقترح مرافقى أخذ جولة في كوبنهاجن. نزلنا محطة الأتوبيس ثم عَرَجنا من طرق جانبية إلى آخر رئيسى يطل عليه مبنى ممتد الضخامة بلون القصديرى الغامق وقبته الخضراء ترفرف أعلاه وعلى جنباته الأعلام ويقف أمامه بعض رجال الشرطة وعلى مقربة منه تقبع سيارتهم ساكنة. (إنه قصر كريستيانسبورج، مقر البرلمان)، قال مُضيفى مشيراً بذراعه ناحية المبنى. (إذاً فقد وصلنا) أجبته مبتسماً، فرد بابتسامة أن نعم. كنا قد عقدنا العزم على زيارة البرلمان منذ أخبرنى أن الزيارة متاحة للجميع وأن هناك حدائق وقاعات محددة متاحة للجمهور. عبر بوابة الأمن دلفنا إلى داخل بهو ضخم ورحنا نتجول دون أن يسألنا أحد إلى أين؟ ولماذا؟.
ما إن انتهينا من الزيارة حتى أخذنا مقاعدنا بأحد المقاهى المطلة على الميدان، نحتسى القهوة الفرنسية الساخنة مع شطائر القرفة بالسكر من خلف ستارة بلاستيكية شفافة تسمح للجالس خلفها أن يستمتع بالدفء المنبعث من المدفأة القريبة متخففاً من ملابسه الثقيلة ومتابعاً حركة المارة ومهارات التزلج في الساحة الجليدية.
لا ينقطع سيل الدراجات المار أمامنا في الحارات المخصصة لها على الطريق والتى يغطيها الثلج، رجالاً ونساءً، شباباً وشيوخاً، مرتدين معاطف بلاستيكية خفيفة تسمح بانزلاق الثلج المتساقط عليهم وألا تبتل ملابسهم. (هل تركب الدراجات؟)، سألنى مرافقى بعد ما لاحظ استغراقى في متابعتها. (للأسف لا)، قلت معتذراً. (يركب غالبية أعضاء البرلمان والحكومة دراجاتهم في طريقهم إلى مكاتبهم)، قال معقباً، (إننا بحق مدينة الدراجات)، أردف قائلاً. مر على هذا المشهد أكثر من خمسة عشر عاماً، لكنه عاد بحيويته وعبقه تأثراً بمقطع تبادلته مواقع التواصل الاجتماعى والإعلام، يظهر فيه رئيس الوزراء الدنمركى والرئيس الفرنسى يستقلان دراجاتهما في جولة بكوبنهاجن.
-------------
بقلم: د. محمد مصطفى الخياط