11 - 05 - 2025

وصية حسين عبدالرازق

وصية حسين عبدالرازق

هو من جيل الصحفيين، الذين تعلموا ممن سبقوهم وعلموا من بعدهم أن الانتماء للمهنة قرين به ومتلازم معه الانتماء للنقابة، كانت المهنة في قلب وطن يبحث عن التغيير و أمام مفارق طرق ، مهنة ولدت وسط بواكير حركة وطنية وانحازت لمقاومة الاحتلال و انتقاد القصر الملكي و الدعوة للثورة علي الأوضاع القائمة ، و صحف تباع و تشتري لمن يدفع اكثر من بعض رجال الملك او اذناب المحتل ، و محاولات الأغلبية من الصحفيين الشرفاء و اصحاب المهنة التي انحازت لأحلام الشعب الذي احتضن الصحافة الحرة و دافع عنها لا تتوقف لتحصين نفسها و تنظيم صفوفها لقيام كيانهم النقابي ، ثم يلحق بأنتصار هذا الحلم و انشاء النقابة عام ١٩٤١ - بعد طول كفاح - قيام الحرب العالمية الثانية بكل وطئتها على مصر وعلى المهنة، ثم تهب ثورة ١٩٥٢ بكل الرياح العاتية و العواصف ، والمعارك الكبري بكل انتصاراتها وانكساراتها، و تأتي مراحل اخري و انقلابات سياسية ولت وجهها شطر ضفاف اخري ، فتركت بصماتها وخلفت آثارها على الكيان النقابي، الذي ظل صامدا ومقاوما ومدافعًا عن المهنة وعلى حقوق أعضائها. 

هذه هي الخلفية التي جاء منها و تاثر بها جيل حسين عبدالرازق الذي رحل عنا الأسبوع الماضي، تاركا فراغا و وجعا في القلب . هذا الجيل كان الحاضنة لعدة أجيال التحقت بالنقابة في النصف الثاني من سبعينيات القرن الماضي، من هذا الجيل ايضا من اصبح عضوًا بارزًا لبعض الوقت في مجلس النقابة كان حسين عبدالرازق من بينهم ، والأكثرية كانوا أعضاء فاعلين في الجمعية العمومية، كان هو دائمًا في مقدمتهم ، مع نخبة من النقابيين الذين علمونا أن النقابة هي حصن وبيت و ملاذ . [ قبل التحاقنا بالمهنة أو معرفتنا طريق النقابة كنا نعرف حسين عبدالرازق مناضلًا يدفع ثمن ما يعتقده من حريته، وله كتاب مهم عن انتفاضة ١٩٧٧ الذي ألقي القبض عليه بعدها مع عدد كبير من السياسيين والمفكرين وقيادات من طلاب الجامعات .. كما عرفناه مهنيا يعتبر المهنة رسالة في خدمة الأغلبية من ابناء الشعب ، و كانت رئاسته لجريدة الاهالي محطه متميزة في تاريخها ، قام بتسجيل تفاصيلها في كتاب مرجع عن هذه التجربة . ثم تأتي مسيرته النقابية فور التحاقه بالمهنة ، و قبل عقدين من نجاحه في مارس ١٩٨٠بعضوية مجلس النقابة ، في انتخابات جاءت على خلفية صدام بين النقابة والرئيس السادات بسبب رفض النقيب كامل زهيري ، طلب السادات بشطب الصحفيين الذين هاجموا زيارته للقدس وتوقيعه اتفاقية كامب ديفيد مع قادة الكيان الصهيوني، ثم رفض قراره بتحويل النقابة إلى مجرد نادٍ. 

وحفلت السنوات الأربع التي قضاها بعضوية المجلس بوجود رموز يفتخر بها العمل النقابي من بينهم لطفي الخولي والدكتور سامي منصور ومحمود المراغي وفتحي رزق وعبدالعزيز عبدالله و النائب احمد فرغلي و جمال حمدي وعبدالحميد الإسلامبولي وأمينة شفيق .

كانت النقابة تشهد حالة من الحيوية، و كانت جمعيتها العمومية حاضرة في كل الأوقات . وظل حسين عبدالرازق بالنسبة لجيلي رقمًا نقابيًا مهمًا وعامل أمان واطمئنان قبل دخوله وبعد خروجه من عضوية مجلس النقابة، ولم يخلط -وهو المناضل السياسي والكادر الحزبي - بين النقابة والحزب السياسي، كان سلوكه النقابي تطبيقًا مثاليًا لشعار "اخلع رداءك الحزبي على باب النقابة". 

في كل المواقف النقابية كنا نجده بيننا بهدوئه و ثباته وابتسامته المعهودة التي لا تفارقه، حاملا ملفه الذي يحتوي علي أفكاره المحددة والمرتبة ، ويتضمن خلفية وأساس أي مشكله يتناولها ، ومنطقة ودفوعه التي يرد بها علي المتربصين بالمهنة او النقابة ، كان الارشيف المتحرك للتشريعات الصحفية والفاضح لترسانة القوانين المقيدة للحريات و تاريخها السيئ . ومن أوائل الذين حذروا مبكرا من محاولات عديدة أرادت تغيير قانون النقابة لغير صالح الصحفيين وبعيدًا عن إرادة الجمعية العمومية، وخلال أزمة القانون ٩٣ لسنة ١٩٩٥ وعقد الجمعية العمومية التي استمرت لمدة عام حتى سقط هذا القانون، كان أحد حراس المعبد بحضوره وحديثه في كل الفعاليات ضمن مئات من كل الأجيال شكلت دروعًا تحمي المهنة والكيان النقابي . 

استمر حسين عبدالرازق يؤدي دوره دون كلل بوعي وحب حتي النهاية ، وكان العطاء النقابي الأبرز له مؤخرًا عندما تم اختياره ضمن لجنة ضمت ٥٠ من رموز العمل الصحفي والنقابي والإعلامي والقانوني، التي أنجزت ما عرف بمشروع " القانون الموحد للصحافة والإعلام " لترجمة مواد الدستور إلى منظومة تشريعات، والذي تم الالتفاف عليه بقوانين أطلق عليها بحق "قوانين إعدام المهنة". في هذه اللجنة التي شارك في كل جلساتها التي امتدت لأكثر من عام تولى رئاسة لجنة فرعية كانت مهمتها إنجاز مشروع لإلغاء عقوبة الحبس في قضايا النشر، و مراجعة مواد الحريات ، ضمت في عضويتها الدكتور علي عبدالعال (الرئيس الحالي للبرلمان) والزميل خالد البلشي وكيل النقابة ومقرر لجنة الحريات في ذلك الوقت، واستعانت اللجنة بعدد من القانونيين منهم عصام الإسلامبولي والراحل حمدي الأسيوطي .. وقام حسين عبدالرازق بدأب - ليس غريبًا عليه - بجهد مراجعة جميع القوانين وتنقيتها من المواد المقيدة لحرية الصحافة، كما قام بصياغة المذكرة الإيضاحية للمشروع الذي ذهب للحكومة ولم يعد حتى الآن، ولا يأتي على ذكره أحد من الذين شاركوا أو باعوا لنا مشروع إعدام المهنة ! هذا المشروع و هذه المذكرة الإيضاحية هي جهده النقابي الاخير، و هي وصيته المعلقة في رقابنا جميعا .

مسيرة الراحل حافلة بما يفتخر به كل المحبين والمخلصين لهذا الوطن.. وعطاؤه النقابي مشهود نعتز به ومحفور بين جنبات نقابته التي لا تنسى أبدًا الذين أخلصوا لها. حسين عبدالرازق جزء من ذاكرة وتاريخ النقابة، ومن تحتضنه الذاكرة و ينصفه التاريخ يعيش ويبقى .
 ----------------------

بقلم: يحيى قلاش
نقيب الصحفيين السابق

مقالات اخرى للكاتب

 التعديل اللقيط