10 - 05 - 2025

عاصفة بوح| العار يستمر حتى آخر العمر The insider

عاصفة بوح| العار يستمر حتى آخر العمر The insider

ربما كانت صدفة ان اشاهد هذا الفيلم القديم، بطولة الرائعين راسل كرو وال باشينو، والذى يدورحول الصحافة الاستقصائية ومصداقيتها فى توصيل الحقيقة للناس وكشف المستور التى تتفانى الحكومات والشركات العابرة  للقارات كشركات التبغ والتى يفوق دخلها دخول كثير من الدول فى إخفاء النتائج الكارثية لمنتجها على الصحة العامة والتى تصل أرباحه للملايين واستعدادها لممارسة كل أنواع الجرائم  حتى لا تظهر الحقيقة فى الاعلام!

الصدفة أنه فى نفس اليوم نشرت تفاصيل مشروع قانون الصحافة والإعلام المقدم إلى مجلس النواب لإقراره دون أخذ راى الصحفيين وإهمال ما تم تقديمه من النقابة عن عمد او ترفعا، وأتصور استهانة، حيث حفلت مواده بنصوص تحول الصحفي إلى موظف بدين بكرش وبطيخة، ملتزم بأوامر الحكومة ومحروم من حق النقد والمراقبة، فيصبح عبدا لتوجهات الدولة دون أى اعتراض، بذلك يحرم الشعب من الجهة الوحيدة القادرة عن التعبير عن مشاكله واحتياجاته وفضح من يتاجر بقوته تاركا الساحة خالية ومؤمنة للفاسدين والمجرمين والسياسين القتلة لروح الأمل لدى البسطاء والمحرومين!

يدور الفيلم عن صحفى استقصائى فى محطة تليفزيونية يبحث عن حقيقة  تأثير التيغ على صحة المواطنين والذى يشكل لهم إدمانا بصورة اكيدة، بعد إضافة مادة كيماوية سريعة التاثير على المخ مما يجعل التخلى عنها من المستحيلات فتكسب الشركة المليارات ناهيك عن الآثار الجانبية التى تؤدى إلى السرطان على المدى الطويل.

اعتمدت المحطة على شاهد كان يعمل  فى الشركة والذى تم فصله لأنه اعترض أخلاقيا على تلك المادة الكيماوية القاتلة وقرر فضحهم عندما وجد أن كل المديرين التنفيذيين قد كذبوا تحت القسم أمام الكونجرس  بأن السجائر لا تسبب إدمانا حفاظا على مكاسبهم ومواقعهم ولتذهب صحة المواطنين إلى الجحيم.

 وهنا بدات معركة تكسير العظام بين الإعلام معتمدة على قوة تأثيره ودعم الشعب له كمندوب عنه فى كشف المستور وبين أصحاب شركة التبغ!

وكان الحوار رائعا، عندما تم تهديد الشاهد بأسرته وبين الجهة الإعلامية المتفهمة للحيرة والخوف التى تتنازعه بين رغبته فى فضح الشركة وخوفه الشخصى على عائلته ومستقبله المهنى!

كانت المحطة التليفزيونية ذات ضمير حى وصريحة رغم إدراكها لنتائج تلك الصراحة، ولكنها المصداقية التى ينساها الكثيرون فى حياتهم المهنية للهفتهم على النجاح بصرف النظر عن أى تبعات أخرى تصيب الآخرين، فأفصحت له عن الثمن الذى سيدفعه وفى نفس الوقت أملت أن يكون من القلائل الذين سيساهمون فى تغيير الاوضاع الفاسدة وتامين حياة ملايين الناس!

هؤلاء القلة الاستثنائية التى تحتاجهم الحياة ليستقيم العدل فى كل مناحيها، هؤلاء من سيتذكرهم التاريخ ويصنعون فارقا حقيقيا!!

هنا تظهر لنا سلطة الشعب فى إعلامه والذى يخافه الطغاه والفسدة، فيشرعون من القوانين ما يكبل حركاتها أو العصف بها نهائيا إذا كانت النظم السياسية تسمح ومجلسها التشريعى مستأنسا ومروضا وقابضا للتمن،  والشعب ساكن وصامت ومروع!

وبدأت المصالح تتصارع، تم تهديد  المحطة داخليا بإمكانية مقاضاتهم، لأن موظفها خرق التعهد بالصمت فيما يخص أمور الشركة ودخلا فى مباراة قانونية شرسة لحماية مصالحهما المتناقضة ودار الحوار التالى:

قال الصحفي ..منذ متى يملى علينا ما نذيعه وما لانذيعه، إذا فقدنا المصدقاية مرة واحدة، فلن يصدقنا احد مرة أخرى، إنه عود الكبريت الصحفى الذى لا يلمع إلا مرة واحدة ولا تفيد معه عمليات الترقيع!

وتذكرت عشرات الموضوعات التى تم منعها بمكالمة تليفون، دون إدراك لنتائجها الكارثية على سمعة الوسيلة الإعلامية، ولكن هؤلاء يعيشون في مجتمعات متعلمة مدركة لحقوقها، محصنة بقوانين حقيقية تحمى وتنفذ على الجميع، لا كما يحدث حاليا فى مجتمعات أخرى تفتقد لكل ما سبق!

كان الأمر صعبا على الجميع، نماذج إنسانية مختلفة تعكس الصراع الذى يدور بداخلنا جميعا فى الأزمات والذى يظهر معدن الشخص الحقيقى وقدرته على الصمود أو التسليم الفورى حفاظا على المكانة والأمن الشخصى!

من هؤلاء الصحفى المخضرم العجوز صاحب الصولات والجولات فى حياته المهنية، وهو يحاول أن يهادن، حتى يستمر ما بقى من عمره فى مكانه ولا يتسول أى عمل فى نهاية حياته.

والآخر صاحب المبادىء الذى لم يستطع تقبل هزيمة الحق بعد منع إذاعة حواره الخطير مع مصدره، ولم يأخذ الضربة ويصمت، بل فعل كل ما يستطيع، مستعينا بزملائه فى الصحف لكى يعلم الرأى العام بالضغوط التى مورست على المحطة، حتى لا تذيع الحقيقة للرأى العام.

ودار الحوار التالى: - لماذا لا تذيعون  المقابلة، أتشكون فى حقيقة الرجل والمعلومة ؟.

و كانت الإجابة نعلم أن الرجل يقول الحقيقة، ولكن كلفتها عالية على المحطة.

أجابهم: إن لم نستطع قول الحقيقة التى تهم الشعب، فلنترك المهنة ونعمل بالتجارة أو بالسياسة فمعاييرهما   تسمح بما تطلبه منى الآن، أما الصحافة فمعيارها واحد.. قول الحقيقة.

وتنتهى المعركة بتراجع  المحطة وإذاعة المقابلة، وبمعرفة الناس بكذب كبار المسؤولين، مما أجبرهم بعد ذلك على وضع إعلان عليها أنها تسبب السرطان ودفع مليارات من الدولارات كتعويضات!!

إنها قوة الإعلام الذى يخشاه الفاسدون، لذلك تكبل وينكل بها، إذا تخلى عنها المجتمع!

فى نهاية الفيلم سئل الموظف كاشف الحقيقة بعدما خسر منصبه الرفيع وعائلته: أنادم أنت على الثمن الذى دفعته ؟ أجابهم أحيانا.. ولكن أعود وأقول لا، فلابد أن يتصدى أحد لهؤلاء المجرمين!

أما الصحفى العجوز الذى تراجع عن مهادنته لموقف المحطة فيجيب قائلا: سينسون كل تاريخك المشرف ويتذكرون كيف انتهيت، فالنجاح قد يستمر وقتا قصيرا، أما العار فيستمر إلى الأبد!!

أما الصحفى الذى قاد تلك المعركة ونجح فيها فقد استقال قائلا: كان الناس يثقون فينا، أما الآن ستظل كلمة  ربما تؤرقهم، ربما سيخافون تلك المرة وذلك لا أرضاه لنفسى!

الخلاصة أن الفيلم ذكرنى بالمعركة التى تدور بين الصحفيين ونقابتهم مع الحكومة حول قانون ممارسة الإعلام عن حرية الصحافة وحقها فى المعرفة وحقها فى حماية  نفسها من أى تهديدات أو ضغوط أو تغول يمنعها من ممارسة وظيفتها الاساسية تاركة مهمة الحساب للأجهزة المعنية، إذا شاءت عاقبت وإذا شاءت تواطأت أو صمتت حتى يفضحها الإعلام المحترم مرة أخرى وهلم جرى!

العار يستمر حتى آخر العمر!

-------------

بقلم: وفاء الشيشيني

 

مقالات اخرى للكاتب

عاصفة بوح | علمتني غزة