15 - 06 - 2024

حكايات الصحافة (2) | سلام على روح عمي «عبد البديع عبد الحي»!!

حكايات الصحافة (2) | سلام على روح عمي «عبد البديع عبد الحي»!!

رأيته في الأتيلييه مصادفة

أعجبتني طريقته الهادئة في الكلام.. وأصر صوت بداخلي أنه مبدع

يلبس جلبابا عاديا.. وحول عنقه كوفية كبيرة.. قديمة لكنها أنيقة وتضفي عليه مع شعره المهوّش سمت الفنان.. لكن ملامحه توحي بإحباط كبير.. شئ ما خلفها متهدم!!

أعرف صورته جيدا.. لكن ذاكرتي لم تطاوعني بسهولة

سألت صديقا بجواري عنه فقال: عمك «عبد البديع عبد الحي» النحَّات

نعم.. هو .. تذكرته.. كنت أظنه من الراحلين

تحينت فرصة أن أصبح بمفرده للحظات وانتقلت إلى جواره وحيّيته فرد من دون أن ينظر نحوي.. وظل يلف عصاه القائمة بين ساقيه بأصابعه وهو شارد

قدمت نفسي باختصار وبصوت واضح.. وقلت أنني أريد أن أحاوره لمجلة «نصف الدنيا».. فقال بصوت عميق واهن: «حوار عن إيه».. قلت: «عن شغلك.. النحت ورحلتك مع الفن».. فهز رأسه بالموافقة، ونظر إلى بعين كليلة وابتسم بودّ حنون.. وأملاني عنوانه في مصر القديمة ورقم تليفونه الأرضي.. وفي ذات اليوم أخبرت الأستاذة «سناء البيسي» فرحبت من فورها.. واندهشت بدورها أنه ما زال على قيد الحياة.. وهاتفته لأسأله إن كان الغد مناسبا له فقال: «أهلا وسهلا»

صباح اليوم التالي كنت أدق بابه أنا ومعي زميلي المصور.. ففتح لنا بعد قليل واستقبلنا بابتسامة صافية يزيدها شاربه الكثّ عذوبة

هالني منظر بيته من الداخل.. تراب متراكم يغطي كل شئ.. والعنكبوت في الأركان.. والصالة مكتظة تماما بالصحف صفراء تماما بحكم القِدَم.. وتماثيل صغيرة مدهشة يغمرها غبار كثيف.. متراصة على أرفف مائلة.. وبداخل خزائن خشبية متهالكة.. وأبواب الغرف المفتوحة تكشف عن فوضى أكثر مما هو في الصالة

جلبابه الذي كان يرتديه في الأتيلييه والكوفية.. معلقان علة مسمار في الحائط.. والجلباب الذي يرتديه متسخ تماما.. وبدا نحيلا جدا أكثر من الأمس.. ويداه ترتعشان وهو يشعل السيجارة.. وانتبهت إلى اصفرار شاربه واصبعيه اللذان يمسك بهما السيجارة بسبب الدخان..

لم يكن في البيت كله مكانا يصلح للجلوس غير كنبة وحيدة في الصالة.. لكن شلتتها مقسومة لنصفين.. بطول حافة الكنبة مكتظة بالقطن غير المنتظم الناشف تماما.. (مكلكع).. والشطر الجُواني منها مبطط ومستوٍ.. وفي نهايته مخدة صغيرة جدا.. وكانت هذه «المِجرَهْ» كما وصفها هي منامته.. ينزلق إليها وينام على جانبه.. وقال لي أنه لم يعد يأكل تقريبا.. واقتصر طعامه في اليوم على «بصلة ناشفة» واحدة وزجاجة كولا لا غير.. يُحضرها من الكشك على ناصية حارته..

أشار لي ولزميلي المُصور بالجلوس.. فجلست، وفضل زميلي الوقوف.. وطلب أن يصوره لينصرف هو.. فوافق بعد محاولات مستميتة لاقناعه.. والتقط له عدة صور.. واستأذن.. وظللت طوال الوقت أُعدّل جلستي.. ولم أسترح إلا حين قرر أن يطلعني على منحوتاته من التماثيل المذهلة وتجولنا بحذر في أركان بيته، وسط ممرات ضيقة جدا، وتحذيرات منه باختلاف مستويات الأرض.. كان يحفظها بالشبر بالرغم من ضعف بصره

وجدت نفسي أمام فنان عظيم.. وأعمال غير معروفة لا مثيل لها.. نحت يشبه تجليات مصر القديمة.. وكشف لي عدة تماثيل بأحجام متوسطة.. صحت بصوت عال عدة مرات.. اللاااااه.. وردّدتُها مع كل عمل.. مستوى فني هائل.. واستولى على ذهني أنه سليل أسرة فنيَّة عظيمة في مصر القديمة احترفت النحت الأسطوري الذي ألهم العالم بأسره، وكانت منحوتاته كلها من الحجارة ذاتها التي استخدمها أجدادنا القدماء

حين عدنا إلى جلستنا على الكنبة كانت الفوضي قد اختفت من حولي تماما.. ورأيت جلبابه نظيفا.. ونسيت المحيط كله.. ولم أعد أرى غير الفنان العظيم المغبون في واقع ظالم بكل مكوناته.. وأن الفوضى الحقيقية في الخارج وليست هنا.. واختلط إعجابي الكبير بأعماله بمحبة له وتعاطف كامل معه.. لكنه تعاطف ينطوي على إكبار وإجلال

ولم أتعمد دفع الحوار إلى تفاصيل حياته الشخصية، بل قادني هو إلى الفني والانساني بقوله: «خد بالك يا أستاذ أسامة ( ظل حريصا على كلمة أستاذ هذه بإصرار بالغ إلى آخر لقاء بيننا) أنا أول مرة أوافق على عمل حوار من سنين طويلة قوي.. وأول مرة أسمح لحد يدخل بيتي.. انت شايف المنظر عامل إزاي.. وكمان أول مرة أسيب حد يصورني.. خد بالك.. فيه حاجة في صوتك امبارح خلتني أوافق».. سألته: «إيه هو».. فقال: «فيك حاجة بتفكرني بحسن فؤاد».. أذهلتني إجابته.. فأنا فعلا أحب «حسن فؤاد» الفنان العظيم وأحد أعمدة مجلة «روز اليوسف»، ومن عُمَد الصحافة المصرية، ورموز اليسار الصادقين، الذين دفعوا ثمنا غاليا في معتقلات عبد الناصر، في الحبستين الشهيرتين أواخر الخمسينات وأوائل الستينات، وكان من نجوم حبسة الواحات، وكثيرا ما تتبعت سيرته في الكتابات، والمرويات الشفاهية من السيدة المحترمة «نرمين القويسني» ـ منحها الله الصحة ـ مديرة مكتب الأديب والكاتب الرائع «إحسان عبد القدوس» لأربعين سنة تقريبا، وأسعدني تشبيه «عم عبد البديع» لي به.. وتمنيت لو كنت واحدا من فريق «روز اليوسف» أيام مجدها، وهي بظني أهم وأنبل مدرسة في تاريخ الصحافة المصرية، مهنياُ وإنسانيا..

وطوّفنا في حديثنا بين النحت، وحياته الشخصية.. وكأنه لم يتحدث من سنوات طويلة.. حكى لي عن ابنه وابنته بصوت عذب ومحبة أشرق لها وجهه، وحدثني عن زوجته بغضب لأنها برأيه كانت السبب في «ورطة البيت ده» وأشار بيده.. قال إن الأرض المقام عليها البيت «حكر تملكها الدولة»، وأن مناطق كثيرة في مصر القديمة أحكار للدولة، وقالت له زوجته أن بعض الجيران دفعوا ثمن الأرض للحكومة وتملكوا الأرض، وأصبحت بيوتهم خالصة لهم، وطالبته بتقليدهم ودفع ثمن الأرض، وتحت إلحاحها ذهب ودفع الثمن المحدد، وانتظروا ان تعطيهم الحكومة العقد، لكنها لم تفعل، ودار في دوامة بيروقراطية حرقت أعصابه، وهو عصبي بطبيعته، كما وصف نفسه، وذات يوم استشاط غضبا بسببها وطردها من البيت، وتحايل عليه سائر الناس، فرفض رفضا حاسماً، لم يقبل فيه استئنافا ولا نقضا.. ودفعني فضولي لسؤاله عن أكوام الصحف القديمة المكدسة في الصالة والغرف، فقال بصوت أرعدني: «دي محوشها علشان أولع في نفسي.. لأني قررت أنتحر»..

كان يشعل سجائره من بعضها، ويطفئ المنتهية بين اصبعيه بطريقة أرعبتني عليه، فطمأنني أن جلد أصابعه ميت منذ زمن بعيد بسبب الإمساك بالمطرقة والأزميل، وقسوة الحجر، وأنه لا يؤرقه شئ الآن إلا رعشة يديه، لأنها ستعوقه عن مشروع عمره الذي سيبدأه بعد الاطمئنان على «تملكه أرض البيت»

سألته بشغف عن «مشروع عمره» فقال بثقة مذهلة: «تمثال من الجرانيت الأحمر بحجم رمسيس الثاني.. وأنا أقدر له بعون الله».. والله.. اقشعر جسدي.. لفرط إيمانه بكلامه وقدرته الفنية.. ورفضه زحف الشيخوخة على جسده.. وما رعشة يديه إلا أحد أعراضها.. ووقتها كان طاعنا في السن.. ظني أنه كان على مشارف الثمانين..

سألته عن بدايته مع النحت وكيف اكتشف موهبته، قال: «كنت أعمل طباخا في قصر «هدى هانم شعراوي» في المنيا.. وكنت أجمع «لبابة العيش الطرية».. وفي وقت الفراغ أُشكّلها تماثيلا مختلفة أعجبت كل من حولي، وشجعني إعجابهم، وساعدوني في جمع اللبابة .. فلما رأت الهانم شغلي قالت أنني موهوب، واصطحبتني معها إلى القاهرة.. وساعدتني على الذهاب في بعثة فنية إلى إيطاليا.. وحين عدت قدمت أعمالا كثيرة في معارض وغيرها، واقتنى كثيرون قطعاً لي.. منها بعض ما رأيته هنا»..

وحين نشرت الحوار في المجلة.. فوجئت باتصال تليفوني من مكتب وزير الثقافة «فاروق حسني».. وأخبرني أحدهم أن الوزير قرأ الحوار ويريد أن يتصل بالفنان «عبد البديع» ففرحت واعتقدت انها نهاية لآلامه، وربما يساعده الوزير في حل مشكلة الحِكر هذه وتمليكه أرض بيته، وهاتفته فرحاً، وظنن أني أزف إليه خبرا مفرحا، فقال لي ببساطة صادمة: « مش هيعملوا حاجة.. سيبك منهم.. الوزير يعرفني جيدا.. ولي تمثال صغير على مكتبه قدام عينه.. يا بني صدقني.. مش هيعملوا حاجة».. وأضاف «سيبك منهم .. أنا مبسوط من الحوار قوي.. ناس كتير كلموني عنه.. انت عملته كويس.. أنا قلت لك بتفكرني بحسن فؤاد».. وكان محقاً.. فلم يحدث شئ أكثر من تلك المكالمة..

وتوطدت علاقتنا وأصبحنا أصدقاء لسنوات، وزرته كثيرا، وتقابلنا في الأتيلييه مرات.. وكان يبش لمقابلتي.. وأسمع ضحكته الرائقة وهو يمازحني.. لكنني في كل مرة كنت ألاحظ ازدياد رعشة يديه، وزحف الشيخوخة أكثر..

كان سفري للعمل في صحيفة بدولة خليجية تحدد موعده، فطلبته لأسلم عليه فقال هتوحشني يا «حسن يا فؤاد».. وقال بأسى أوجع قلبي: «يا ترى الوشوش هتتقابل تاني.. ولا هترجع ما تلاقنيش».. لم أتمكن من الرد عليه فورا لأن دموعي غلبتني تأثرا بصوته المشحون بالشجن.. وشعرت بقبضة في صدري.. كانت لحظة وداع فوق طاقتي..

وأنا هناك بكيت عليه بحُرقة بعيدا عن العيون، حين قرأت أن لصوصاً تسوروا بيته لسرقته ظناً أن لديه خبيئة مالية.. وحين اكتشفهم وحاول مقاومتهم بكل وهن الشيخوخة قتلوه بخِسِّة.. وظللت أتصور يده المرتعشة تهددهم، وهم يخنقونه ببرود القتلة.. الفنان المحب للحياة بداخله عصمه من الانتحار.. لكنهم لم يرحموا شيخوخته

رحم الله عمي «عبد البديع عبد الحي» !!

مقالات اخرى للكاتب

كارثة علاء مبارك وصبيانه!!





اعلان