19 - 06 - 2024

حكايات الصحافة (1)| البسطاء لا يعرفون غير الستر!

حكايات الصحافة (1)| البسطاء لا يعرفون غير الستر!

في بداية اشتغالي بالصحافة عملت في مجلة «نصف الدنيا» لست سنوات تقريبا.. وصادفتني حكايات كثيرة مدهشة، وطريفة، وبعضها موجع!! أحب أن اسجلها قبل أن تضعف الذاكرة، وتتوه التفاصيل..

منها أنني عملت تحقيقا مرة بعنوان « لو جالك مليون جنيه؟ ».. وهذا كان قبل برنامج من سيربح المليون بسنوات عديدة

وقررت أن أسأل بعض أصحاب الدخل المحدود جدا، ممن يبذلون جهودا هائلة لتحصيل لقمة العيش، ولا يعرفون أكثر من الاستيقاظ مبكرا، والدوران بلا توقف في ساقية المشقة، من دون تفكير في غير هذا

وتخيرت سوقاً مزدحمة في حي شعبي.. ومشيت متمهلا، متأملا الناس علِّي ألمح من أبحث عنهم، فكان أول حظي مع بائعة شاي شابة، تمتلك حيوية ظاهرة، ونشاطا، وتتحرك بدأب في كافة الأنحاء، ولها «نَصبَة» صغيرة بجوار حائط، وبجوارها كرسي واحد متهالك، تجلس عليه لتريح ساقيها كلما تأخرت الطلبات قليلا، واستأذنتها في الجلوس وطلبت شاي. فقالت بتشكك وطيبة: «إنت تبع البلدية؟؟».. وقبل أن أجيبها استدركت: «بس انت مش زيّهم»، واستغربت حين أخبرتها أنني صحفي، وقالت وهي تبتعد حاملة الصينية إلى بائعين في المحيط: «الصُحفيين دول شكلهم بتوع مشاكل».. نطقتها بضم الصاد، وهي صحيحة، ولمحت ابتسامة على جانب فمها، وحين عادت سألتني:«سُكرك إيه يا استاذ» وغسلت الكوب باهتمام زائد وأعدت لي شايا لا أنسى طعمه، ثم نظرت في عيني مباشرة وسألتني: «خير!!»

فقلت لها ببساطة: «لو جالك مليون جنيه هتعملي إيه؟».. كانت تُقلِّب في أكواب أمامها.. وحملت الصينية وابتعدت ثانية وهي تهز رأسها.. كأن السؤال أربكها.. وحين عادت كانت ساهمة تماما، ونظرت إلي باهتمام.. وقالت بصوت يخلو من الود: «بقولك إيه يا أستاذ.. اشرب شايك واتكل على الله..».. وابتعدت لثالث مرة وهي تقول بصوت أوجعني: «الحكاية مش ناقصة تريقة.. ربنا يسهلك».. تركت ثمن الشاي، وأشرت لها وأنا مبتسم، واعتبرت كلامها «إجابة مفاجئة».. فلوحت لي بالصينية الفارغة من بعيد وهي متجهمة..

وغير بعيد وجدت امرأة عجوز.. عجوز جدا.. وضامرة.. لها جسد طفلة نحيل، تجلس القرفصاء بجوار «مشنة ليمون» صغيرة.. كأنها بردانة.. جلست بجوارها.. وردت على سلامي بود بالغ.. واشتريت بعض الليمون.. وبعد دردشة قصيرة قلت لها من أنا.. وطرحت سؤالي فقالت: «يا جاه النبي.. مليون جنيه حتة واحدة».. نطقتها بلهجة ريفية و«بفتح ميم المليون».. وأكملت: «طب قول ميت جنيه حتى.. دا الدَكَتور (بفتح الدال والكاف) بتاع العينين بيقول إن الكشف والقطرة والدوا والنضارة يييجوا بميت جنيه.. ويمكن زيادة».. «مليون.. ربنا يرزقك ويطعمك وما يحوجك لحد».. وقبل ان أقول أي شئ سألتني هي: «عارف يا ابني آني عاوزة النضارة ليه؟».. ليه؟.. فقالت: «لأن الزباين بيغشوني في عد اللمون وبياخدوا زيادة عن حقهم.. وأنا نظري طشاش على قدي.. فقول بس ربنا ربنا يقدرنا ونحوِّش الميت جنيه».. والحقيقة.. أحسست بخجل شديد.. وملأت بساطتها العميقة قلبي بالحزن حين علمت أنها وحيدة تماماً في الحياة.. وليس لها أحد.. وما زلت أذكرها من وقت لآخر.. وأشفق عليها من وحشة الوحدة هناك أيضاً

وكان الثالث «مبيض محارة»، يقف أمام واجهة بناء يعمل فيها، في ذات الشارع، وبعد السلام والدردشة تأمل سؤالي مبتسما وأجاب بحماس: «أول شئ هعمله.. اشتري شقة أوضتين وصالة.. علشان أمي والعيال يناموا في أوضه لوحدهم.. وأعرف آخد راحتي في النومة أنا والجماعة».. «وتاني هام.. أشتري عدة كبيرة» سألته: «يعني إيه عِدَّة كبيرة» فقال: «سقالات.. لأن السقالات دي بأجرها وبتاخد من حقي كتير».. وسألته «بس؟!».. فقال: «وهجيب للعيال وامي والجماعة شوية حاجات.. هدوم.. وأكل.. كده يعني».. وقال بصدق آسر:« إحنا مالناش غير الشقا يا أستاذ.. الفلوس ما تجلناش غير بالعرق.. وعالقد.. مش احنا اللي تجري ورانا الفلوس».. مضيت وكلامه يتردد في ذهني بوقع الحِكَم.. كأنه يأتي من كهف عميق..

وأطرفهم كان الرابع.. صبي ميكانيكي خفيف الظل، قال من فوره: «هجيب راس عربية نقل.. إسكانيا قطش.. ومقطورة تريلا كبيرة.. وأفتح ورشة واسعة فيها كل العِدد... ومليانة صنايعية».. ضحكت بعمق من كلمة «إسكانيا قطش»

ظللت أتأمل إجاباتهم أثناء كتابة الموضوع.. ووضعني استغرابهم السؤال وعجزهم عن الرد عليه أمام فكرة عدم امتلاك أبناء الشقاء، أغلبهم وليس جميعهم ربما، لا يملكون آلية للتفكير في الغنى المفاجئ بالأساس، لذا ارتبكوا، واستهولوا المبلغ، لغرقهم طوال حياتهم في كدِّ لا ينقطع من أجل لقمة العيش، ونتيجة للظروف القاسية التي عاشوها، وحرمتهم بالضرورة الوعي الكافي لفهم أسباب بؤسهم، فمنطقي أن ينحصر تفكيرهم فقط في مواجهة متطلبات المعيشة لا أكثر.. وربما هو ما يجمعون على تسميته «الستر».






اعلان