28 - 03 - 2024

العين صابتني ورب العرش نجّاني

العين صابتني ورب العرش نجّاني

الأمور كلها مضطربة، لا شيء يوحي بالحقيقة، هنا المراكب تحاول جاهدة أن تمشي عكس اتجاه الريح، وسيارات الأجرة تسعى لملاحقة القطارات على قضبانها، وحلاق القرية يريد أن يثبت للمريض أن طبيب الباطنة حمار ينقصه بردعة، المزايدات الرخيصة لا تنتهي، وشعار الجمع الجاهل (نحن نحارب الجهل) وشعار الفاسدين (نحن نحارب الفساد) وشعار الطمّاعين الظلمة (نحن نحارب الجشع) وشعار الحيوانات المفترسة (رفقًا بالحيوان) وشعار الحرامي (هذا من فضل ربّي)..

الاضطراب والخلل طال حتى بائعة الفجل التي إذا اقتربت منها ولو بالخطأ وجدتها تقول لجارتها (الدولار غلي) وإذا حاولت أن تشتري حزمة بصل أخضر حدّثتك عن سعر اليورو والاسترليني دون أن تفهم أو تدرك لأي البلاد تنتمي هذه العملات وماهية علاقتنا بها.. لا تكتفي بهذا وإنما تشمر عن ساعديها لتروّج للسياحة ظنًّا منها أنك مرشد والعياذ بالله.. هي تفعل كل هذا دون أن تدري أنك تفعل أضعافه في محيط عملك، لكن (سايكوباتيّتك) تجعلك ممتعضًا من ممارسات باعة الخضار التي تسعى للنصب عليك في نصف جنيه فقط لا غير..

المذيع الغامض لا يكف عن سباب معارضيه، وضيوف المذيع الغامض يدّعون الغموض، وكلام السياسة لم يعد مفهومًا كقصائد بعض الشعراء التي تشبه معظم أفلام يوسف شاهين، المكلمة تتسع رقعتها والقنوات الصفراء ليس لديها أدنى أزمة في أن تتاجر بكلّ شيء من أجل أشياء إن تبد لهم تسؤهم..

الصواب والخطأ صارا يقتسمان وجها واحدًا لعملة مطموسة المعالم، فلم يعد التفريق بينهما أمرًا مهمًّا للبعض، لأنهما تشابها، فالصواب دائمًا يحتمل الخطأ كما يروّج فلاسفة العصر والخطأ دائمًا يحتمل الصواب... أشياء معلبة وجمل لا محل لها من الإعراب لكننا توارثناها كما ورثنا إدمان الفول والطعمية في الصباح بحجة أن هذا أفضل المتاح، لم يعد لدينا القدرة على المجازفة في أي مجال حتى ولو برفض ساندوتشات الفول والطعمية واستبدالها بساندوتشات حلاوة بالقشطة كما يقول اللمبي أيقونة الجيل وتميمة المتخلفين عقليًّا في شوارعنا العريقة..

هذا كله دون دراية يقع على عاتقهم وحدهم، أقصد كتاب الأنظمة طبعًا، كُتّاب الأنظمة الذين يغمسون أقلامهم في محابر الفساد ليكتبوا للفقراء على واجهات الصحف (القناعة كنز لا يفنى) ظنًّا منهم أن الفقراء يجيدون قراءة العناوين العريضة في هذه الصحف الكئيبة..

الخطباء لا يختلفون عنهم كثيرًا إلا في كيّ الجبّة وإحكام العمامة وضبط الأحبال الصوتية لإقناع الفقراء بأن(الصبر مفتاح الفرج) على الرغم من أن معظمهم ينام ولا يوقظه إلا جملة (أقم الصلاة) وأحيانًا لا توقظه فيكمل نومه في أحد الأركان حتى تحين صلاة العشاء..

جميعهم بالفعل ليس لديهم أدنى فكرة عن طبيعة الفقراء الذين يربتون في الصباح على جدران بيوتهم المتهدمة لإخبارها بأن القادم أفضل.. ويقبّلون أبناءهم في المساء وهم يرددون في آذانهم (من خاف سلم)..

شعراء الأنظمة يعلمون جيدًا أن الفراهيدي رجل مجنون وأن باعة الصحف كحاملي الخمر وأن قصائدهم مجرد تهاويم فارغة لا يفهمون معظمها لكنهم يصرون عليها لخلق هذا الصدام اليومي الكفيل بالقضاء على تطلعات غيرهم في كتابة قصيدة تليق بوضع مأساوي كهذا..

بائع التبغ لا يحتاج إلى من يروج لبضاعته.. فهذه العجوز لا يمكنها تحمل هذه الأكاذيب دون صبّ القطران على رئتيها المتهالكتين لاستكمال رحلة القهر..

الأكشاك الصغيرة كلها مكتوب عليها (لا حيلة في الرزق ولا شفاعة في الموت) على الرغم من كثرة الحيل التي يستخدمها مثل هؤلاء الباعة لسرقة الزبون المغفّل.. بعض الحشاشين بعد الانتهاء من بناء مقابرهم ينحتون على أسمنتها الطري أسماءهم مصحوبة بجملة (العين صابتني ورب العرش نجّاني) وكأنهم يخشون على الجيف من الحسد...

مجتمعاتنا لا تنام جيدًا من الشاي المصنوع من نشارة الخشب والطعام الفاسد والسجائر الصيني المضروبة والحشيش المصنوع من الحنّاء والكيمياء والروث.. والأسواق الممتلئة بصراصير البحر التي تشبه الجمبري وتصريحات الحكومات المتعاقبة المتشابهة وخطب عذاب القبر وعذاب رئيس العمل وعذاب الجزاءات وعذاب خصم المرتب، وقصص الثعبان الأقرع التي لا تنتهي.. وحبوب الفياجرا منتهية الصلاحية.. والأسرّة المضروبة بسوس الخشب، والستائر الممزقة والأبواب المسنودة بفعل الصدأ..

لهذا يخضع الجميع لما يكتب على واجهات الصحف وما يقال في جلسات العمم الكبيرة ليربتوا على جدران قلوبهم المتهالكة وهم يودعون الحياة في كل لحظة دون أن يحاولوا معرفة أسباب النزول من هناك إلى هنا..






اعلان