02 - 07 - 2025

ردا على سامي شرف| قال "ديمقراطية" قال!

ردا على سامي شرف| قال

ذات يوم من أيام العشرينيات، كان أحمد لطفي السيد، المرشح لعضوية مجلس النواب، وزير المعارف فيما بعد، يجهز لمؤتمر انتخابي في احدى قرى الوجه البحري.

وقبل من المؤتمر بيوم واحد، زار المرشح المنافس القرية، وقال لأهلها - ضمن ما قال- إن لطفي السيد من دعاة الديمقراطية.. عارفين يعني إيه ديمقراطية؟ قالوا: لأ، قال لهم: الديمقراطية يعني كل حاجة مباحة، يعني الست تمشي على حل شعرها، ويبقى من حقها بالقانون تتجوز واحد واتنين وتلاتة في نفس الوقت!

وفي مساء اليوم التالي، جاء لطفي السيد ومعه بعض أنصاره إلى المؤتمر الذي حضره آلاف الأهالي على غير العادة. وأول ما أمسك الميكروفون ليتكلم، سأله عمدة القرية: إلا انت صحيح يا "لطفي بيه" بتأيّد الديمقراطية؟

رد الرجل قائلا: طبعا، أنا من كبار دعاة الديمقراطية.

وهنا ساد الهرج والمرج الصوان، انفضّ المؤتمر فجأة قبل أن يبدأ، وتزاحم الناس على الباب خارجين، بعد أن زعق العمدة فيهم: قال ديمقراطية قال.. يا ليلة سودا يا اولاد!

هذه الحكاية هي أول ما يخطر على بالك، لدى قراءة المقال الذي كتبه السيد سامي شرف، سكرتير الرئيس الراحل جمال عبد الناصر للمعلومات، أحد رجال ثورة 23 يوليو العظام، في إحدى الصحف اليومية الخاصة الأربعاء الماضي، تحت عنوان "كم من الجرائم والخطايا تُرتكب باسمك أيتها الحرية!".

والمقال، لمن لم يقرأه، أمثولة في ذم الديمقراطية وبيان ما ترتكبه من موبقات في حق الشعوب، وكيف أنها ربما لا تناسب "ظروفنا" وتقاليدنا الحضارية الراهنة، أو حتى المرهونة إذا شئت!

يقول السيد شرف: "إن قضية الديمقراطية هى بلا شك قضية مهمة، ولكنها أيضا ذريعة، وباسمها تُرتكب الجرائم والخطايا، فالديمقراطية، مثلا هى الشعار الذى ترفعه الرأسمالية والإمبريالية الجديدة فى حربها ضد الثورة الوطنية والاجتماعية فى العالم الثالث، وضد الاشتراكية فى المعسكر الاشتراكى، فهى تزعم أن معركة العصر هى معركة بين الديمقراطية والشمولية، وليست بين الرأسمالية والإمبريالية".

وبصرف النظر عن أن السيد الكاتب يتكلم على "معركة عصر" مضى، فمن المعلوم بالضرورة في أدبيات العلوم السياسية الكلاسيكية أن لفظيّ "الرأسمالية والإمبريالية" يُستخدمان باعتبار أن "الإمبريالية" هي أعلى مراحل تطور الرأسمالية.

ومن ذلك أيضا قول السيد الكاتب في موضع من المقال إن "فرنسا، أم الحرية والديمقراطية والأحزاب ذات الصوت العالى، اكتسحتها جحافل النازية فى لمح البصر وسقط النظام سقوطا مدويا".

ولم يذكر السيد كاتب المقال، مثلا، أن فرنسا أم الحرية والديمقراطية ربما، لكنها ليست أم الدنيا بالتأكيد، لم تكن لتتحرر من الاحتلال النازي أثناء الحرب العالمية الثانية (1939- 1945) إلا بحبل من تلك الديمقراطية، التي جعلت الزعيم الفرنسي الجنرال شارل ديجول، قائد المقاومة الشعبية وأول رئيس للجمهورية بعد التحرير، يصرح أمام البرلمان: "إني لا أسمع أي نكتة جديدة ضدي، يبدو أنني قد فقدت شعبيتي"!

يقول الكاتب، في موضع آخر: "وقمة الديمقراطية، الولايات المتحدة الأمريكية - كما تدعي لنفسها- نُسف أسطولها وطيرانها بالكامل فى لحظات فى بيرل هاربور، ولم تشفع لها الديمقراطية ولا حقوق الإنسان".

ولم تسعفني قريحتي، كما يقول المثقفون، لأفهم العلاقة الخفية بين قصف الأسطول الأمريكي وهو يرسو في ميناء "بيرل هاربور"، كعملية عسكرية مباغتة قام بها الطيران الياباني خلال الحرب المشار إليها، وبين الديمقراطية وحقوق الإنسان كشأن أمريكي داخلي، ليس لنا أن نتدخل فيه، خصوصا أن اليابانيين ليسوا من مواطني الولايات المتحدة، ولا تسري عليهم القوانين الأمريكية!

ونأتي إلى الشق الثاني من المقال، وهو الخاص بـ"الظروف الحضارية" المانعة لتطبيق الديمقراطية بمعناها الوحيد الذي نعرفه. يقول الكاتب "أدرك قائد ثورة 32 يوليو أن لكل مجتمع تقاليده وموروثاته وتجربته السياسية التى قد تتفق فى بعض جوانبها مع تجارب الآخرين، إلا أنها أيضا تختلف فى جوانب أخرى بما تتميز به من خصوصية، فلكل مجتمع خصوصية تميّزه عما سواه، بما يعنى أن استيراد أنماط جاهزة مستقاة من تجارب سياسية أخرى تختلف عنا اختلافا جذرياً لتطبق لدينا، كان كفيلا بأن يحكم بالفشل على تجربتنا من البداية".

ورغم مرور 66 سنة على ثورة يوليو، لم نر مفكرا ناصريا واحدا، بما في ذلك العلاّمة الدكتور عصمت سيف الدولة رحمه الله، قدم إسهاما نظريا ذا شأن في "النظرية السياسية الناصرية" يتضمن تعريفا آخر للديمقراطية غير الذي نعرفه، وكان يعرفه "أستاذ الجيل" أحمد لطفي السيد!

وكما بدأنا بحكاية نختم بفيلم، وبالتحديد هذا المشهد من الفيلم الأمريكي "ملح ونار" حين يقول البطل لإحدى الشخصيات: كنت وأنا صغير أخاف من الظلام، لكن جدتي قالت لي جملة لا أنساها حتى الآن، قالت: لا بأس يا بنيّ أن تخاف من الظلام، المأساة الحقيقية هي أن يخاف الرجال من النور!

وبعد، فإن النقطة الأهم من كل ما قيل، بعد ما قيل، هي السؤال: لماذا يظهر مقال كهذا في "هكذا فترة"، كما يقول الشوام؟ الإجابة ليست في الحلقة القادمة!