أخذتني صيحات "قالوا إيه" التي تزينت بأسماء عدد من شهدائنا الأبطال في رحلة حنين لسنوات تشكيل الوعي وصياغة الوجدان
فكلمات الهتاف البسيطة وأداء أبطال الصاعقة الحماسي أدخلاني في نوبة بكاء كنت أردد خلفهم خلالها وأنا أدعو الله أن يرحمهم ويلحقنا بهم ويكتب لجيشنا النصر ولبلدنا التقدم ليصبح كما نتمنى بلدا حرا يسوده العدل والمساواة .
في مدرسة السلطان برقوق الابتدائية كانت سنوات ست تركت كل لحظة فيها أثرا في نفسي وتعلمت خلالها دروس الحياة الأولى
كنت أهتف في الطابور المدرسي ومن خلفي زملائي وزميلاتي
القسم : أقسم بالله العظيم : أن أكون مخلصا لجمهورية مصر العربية// وأن أبذل جهدي // لرفعة وطني // والدفاع عنه // ضد كل عدو// وكل غاصب والله على ما أقول شهيد
وحين كان ينادي الأستاذ غطاس بصوته الجهوري ومن بعده الاستاذ شوقي بلغته العربية الرائقة :
مدرسة صفا نردد : مصر
مدرسة إنتباه فنرد : عربية
كنت أحب طابور المدرسة ففيه تجسيد لفكرة العمل الجماعي والهتافات كانت تمنحني طاقة إيجابية فهمت مغزاها بعد ذلك بسنوات
وحين التحقت بمدرسة السلحدار الإعدادية اتسعت زاوية الرؤية أمامي وتوليت مسئولية المتابعة اليومية للإذاعة المدرسية مع زملاء آخرين
كانت مدرسة السلحدار أكبر من مدرسة السلطان برقوق وبها ملعب ومكتبة وفكرة الطابور المدرسي بهتافاته الحماسية وتمريناته الرياضية كانت أكثر تأثيرا كما أن وعيي بحكم السن كان أكبر
كل هذه العوامل منحتني قدرة أفضل على استيعاب معاني فكرة العقل الجمعي وكيف يمكن تربية النشء على قيم الالتزام وحب الوطن بعيدا عن مزايدات المنافقين
في ذاكرتي مشهد لا يمحى من سنوات الإعدادية الثلاث
كان "عم حسبو" فراش المدرسة وحارسها الصعيدي الذي يحبه الجميع
كان رجلا طويلا قوي البنية جلبابه الواسع وعمامته التي لا تفارق رأسه وخطواته السريعة منحته مهابة لا تخطئها العين
في يوم مشمس وبعد انتهاء التمارين الرياضية وفقرات الإذاعة المدرسية
بدأنا في ترديد نشيد بلادي بلادي إيذانا بانتهاء الطابور وبدء الصعود إلى الفصول
في هذه اللحظة كان "عم حسبو" يسير في الطابق الثاني وحين بدأنا في ترديد النشيد وقف الرجل واستدار ناحية صحن المدرسة ووضع يديه إلى جنبه حتى انتهينا من النشيد ليواصل سيره بعد ذلك
لمحت "عم حسبو" وهو على هذه الهيئة وتمنيت أن أشير إلى زملائي جميعا لينظروا إليه لكني لم أفعل احتراما لترديد النشيد
لكن الأستاذ محمود مدرس التربية الرياضية ومسئول تسيير الطابور فعلها ووجه الشكر ل "عم حسبو" ودعانا لتحيته بتصفيق رباعي
لا أدري إن كان "عم حسبو" قد رحل عن دنيانا أم مازال على قيد الحياة لكني أعرف جيدا كم أثر في هذا المشهد
في مدرسة الأهرام الثانوية ما زلت أذكر جيدا خطبة الصباح التي كان يلقيها مدير المدرسة حين كان يخاطبنا أبنائي أبناء هذا الصرح //المعهد العلمي العتيق
كنت قد بدأت في بللورة أفكاري وانحيازي الفكري في تلك السنوات
التي تعلمت فيها كثيرا من الدروس الإنسانية
كنت مسئولا عن الإذاعة المدرسية ومسئول اللجنة الثقافية باتحاد الطلبة
واشتركت مع عدد من الزملاء في تنظيم لقاء أسبوعي يتولى أحدنا خلاله قراءة كتاب وتلخيصه للآخرين وإجراء مناقشات بشأنه
انضم لنا عدد من الطلاب كانوا من المنتمين آنذاك للجماعة الإسلامية وكانوا يتلقون تدريبات بدنية مع أعضاء الجماعة في معسكرات تدريب إما داخل أحيائهم "كان أغلبهم من الزاوية الحمراء وحدائق القبة والشرابية" أو خارجها بعيد عن التجمعات السكنية
دعاني أحدهم للانضمام لهم وحين تناقشنا وفندت له " حسب قدراتنا في تلك السنوات" آرائهم وأفكارهم شكرني وقال لي سأدعو لك بالهداية
ملحوظة : كنت في تلك السنوات إمام مسجد المدرسة وأسهم بقدر في تعليم من يطلب مني أحكام تلاوة القرآن الكريم
المهم كان من بين هؤلاء من يرفض تحية العلم ويرفض ترديد نشيد
بلادي بلادي فتلك في رأيهم بدع مخالفة لصحيح الإسلام
وجدت نفسي مسئولا عن إعادة هؤلاء إلى الطريق الذي أراه صحيحا
وفي أحد الأيام استأذنت مسئول الإذاعة المدرسية الأستاذ أنور في عدم المشاركة في تقديم الإذاعة وكان دوري في هذا اليوم قراءة قرآن افتتاح الإذاعة
وذهبت لمسجد المدرسة الصغير حيث يقضي هؤلاء فترة الطابور الصباحي للتهرب من تحية العلم وترديد النشيد
وبدأنا في مناقشة أسباب عزوفهم عن حضور الطابور واستمر النقاش دون جدوى ولم ندرك أن الطابور قد انتهى وأن مدير المدرسة الأستاذ زكي وكان رجلا حازما لأبعد مدى قد توجه إلى المسجد لضبط المتخلفين عن طابور الصباح .
وقف الاستاذ زكي على باب المسجد وهو يصرخ في وجوهنا جميعا ويتوعدنا بشر العقاب وحين رآني بينهم قال موجها كلامه لي : حتى انت تهرب من الطابور لماذا تخلفت عن تقديم الإذاعة اليوم ؟ أنت لك مني عقاب خاص وأشار لنا بخرزانته الطويلة أخرجوا يا بهوات
ليبدأ حصة العقاب بالضرب بالخرزانة على الكفين
تلقوا جميعا العقاب ونلت أنا قسطا مضاعفا ثم أمرنا بالتوجه إلى مكتبه
طلبت منه ساعتها أن أتحدث معه قبل توجيه أي عقاب إداري لي ولبقية الطلاب فلم يمانع ليدور بيننا هذا الحوار على باب المسجد :
أنا : أستاذ زكي هل تعلم لماذا لا يحضر هؤلاء الطابور المدرسي ؟
هو : عشان عيال بايظة ومش ملتزمة
أنا : لا بالمناسبة هم طلاب ملتزمون وأحدهم كان متفوقا
هو : أمال ليه يا فالح مبيحضروش الطابور
أنا : لأنهم يرون أن المشاركة في تحية العلم حرام فهو نصب لا يجوز تحيته واداء نشيد بلادي بلادي مخالف للشرع
هو : يخرب بيتك يعني متطرفين يبقى لازم أبعت لأولياء أمورهم ولو وصل الأمر أبلغ عنهم دي بداية الإرهاب ...وانت كمان قاعد معاهم " انت مش بتقول انك ناصري
أنا : يا أستاذ زكي دول شباب محتاجين اللي يتكلم معاهم ويفهمهم ويستوعبهم مش اللي يبعت يجيب أولياء أمورهم ويبلغ عنهم
هو وقد بدت عليه علامات الغضب : وانت بقى يا فالح الله هتفهمهم وتستوعبهم
أنا : لا طبعا أنا بحاول على أد ما أقدر بس حضرتك وممكن أستاذ أنور أو أستاذ أحمد " كانا مدرسين للغة العربية والتربية الدينية " يتكلموا معاهم
هو : طيب ملكش دعوة انت بالموضوع ده وانا هشوف اعمل معاهم أيه
أنا : بس أكيد مش هتبلغ عنهم
هو : لا طبعا بس لازم يحضروا الطابور وانت روح على فصلك
بعدها التزم الجميع بحضور الطابور لكنهم لم يتوقفوا عن اعتبار تحية العلم وترديد النشيد حرام
بعد هذه الواقعة بأربع سنوات اعتقلت وفي زنزانة أمن الدولة في لاظوغلي التقيت أحد هؤلاء الطلاب لم أتبين ملامحه فقد طالت لحيته وبدا أكبر بكثير من عمره
حياني وقال لي ألا تذكرني ؟ تصورت أنه أحد طلاب جامعة عين شمس وربما التقيته في إحدى المظاهرات فقلت له سامحني لا أذكرك هل انت في جامعة عين شمس ؟ فرد باسما نعم لكننا كنا زملاء في مدرسة الأهرام الثانوية فتذكرته وسلمت عليه واحتضنته فقال لي
أما زلت كما كنت أم ربنا هداك ؟
ضحكت وقلت له نعم أنا ربنا هداني لكي أكون كما أنا ...وبعدين نحن في زنزانة واحدة يا راجل قول يارب
علمت أنه اعتقل قبلها بشهور وأنه لا يدري متي سيخرج ليكمل مشوار الجهاد الذي بدأه
لم أره بعد ذلك لكن فكرة رفض هؤلاء لتحية علم البلاد وترديد النشيد الوطني ظلت تشغلني .
في الجامعة كانت الهتافات وسيلة مثالية لإلهاب حماس المشاركين في المظاهرات ودعوة الطلاب لمشاركتنا مظاهراتنا وفي كثير من الأحيان كان يردد الطلاب خلفنا الهتافات ويحفظونها حتى لو لم يشاركونا التظاهر أو يتفقون معنا في مواقفنا وأسباب تظاهرنا
كنت أهتف وألقي الخطب في المظاهرات والمؤتمرات الطلابية وكان من بين برامج التدريب ودورات التثقيف السياسي محاضرات عن الهتافات الحماسية ودورها وتاريخها بل وطريقة أدائها بطريقة أفضل حتى نحافظ على أصواتنا أطول فترة ممكنة
أفادني هذا الأمر كثيرا حين التحقت بالخدمة العسكرية
كنت قد بدأت عملي بالصحافة بصورة احترافية وكنت حريصا على أن أقضي فترة التجنيد الإجباري فهي في رأيي تجربة مهمة جدا لصقل المهارات واكتساب الخبرات فضلا عن أنها فرصة لا تعوض للالتحاق بالمدرسة الوطنية الأكثر تماسكا وهي القوات المسلحة
بعض من زملائي طلبوا عدم الالتحاق بالخدمة العسكرية وكتبوا في أوراق التجنيد أنهم اعتقلوا وأن لهم نشاطا سياسيا معارضا وكان هذا كفيلا باستبعادهم من الخدمة العسكرية حيث كانت ولا تزال القوات المسلحة هي البوتقة التي ينصهر فيها الجميع ويودعون قبل الالتحاق بها أي انتماء سياسي
المهم دخلت الجيش وفيه تعلمت الكثير وحين أطلقت النار لأول مرة وأصبت الأهداف جميعها كنت في غاية السعادة ونلت تقدير القائد
كانت أيام الجيش ولياليه فرصة للتعرف إلى شخصيات ما كنت لألتقي أيا منهم خارج أسوار المعسكر
كنت أناقش زملائي وأحدثهم عن أهمية ما نقوم به رغم مشقته وكانوا يستغربون حديثي في البداية لكنني تمكنت بعد أسابيع قليلة من كسب أصدقاء باتوا ينظرون للخدمة العسكرية بصورة مختلفة
ميخائيل شاب من المنيا لم يخف استغرابه من أدائي فحين كنا نكلف بمهمة شاقة كنت أنفذها وأنا أغني أو أردد بعض الأشعار حتى صرخ في وجهي : يا أخي حرام عليك إحنا فلاحين وواخدين ع الشقا وبنشتغل واحنا قرفانين وانت اللي من القاهرة وبتشتغل صحفي وبتقعد على مكتب في التكييف قاعد تغني وتقول شعر أنت هتجنني ؟؟!!
ضحكت ونظرت فإذا عدد من العساكر زملائي ينظرون إلي وكأنهم يوافقون ميخائيل على ما يقول
وكانت فرصتي لأعيد على مسامعهم بعض الأشعار
فقلت له يا ميخائيل هذه الأيام التي تراها قاسية ستمر وخدمتك في الجيش لابد وأن تستكمل ...أيهما أفضل أن تقضيها وأنت تغني أم تقضيها وأنت قرفان وزهقان
فضحكوا جميعا وبدأوا يرددون خلفي الغناء والأشعار حتي ضبطنا الملازم أول شريف وكان في مثل عمري ونهانا عن ذلك لكنه عاد ليغني معنا هتافات الجيش والصاعقة الحماسية
كم جميلة تلك الصيحات التي أعادتني لتلك السنوات وهذه المواقف التي لا تنسى
أبطالنا في سينا أقبل الأرض تحت أقدامكم جميعا وأسأل الله أن يكتب لنا النصر على كل أعداء الحياة عاشت مصر وعاش شعبها وجيشها.