قررت أن أزور الحمراء منفردة، بلا رفقة و لا دليل، اشفقت على الرفاق من ثقل هم يسكنني، تفضحه خطواتي المتثاقلة، و يشي به دمع سينهمر لا محالة، و تكبرت عن أدلاء يعبرون بي دروب أسلافي و يعلمونني أسماء المعالم و الملوك و يحكون لي تاريخ بناء القصور و صنع النوافير، و يبتسمون بمكر المنتصر المغرور .. أنا لا أكتم حزن الحمراء، كنت أحدث نفسي، أحيانا بصوت مرتفع، و أعاتب بيأس بقايا دمن شهدت أشر استسلام عرفه تاريخ العرب ..
يلج الزائر قصر الحمراء من المدخل المسمى باب الشريعة، استبدل اسمه التليد بيافطة كبيرة كتبت عليها كلمة الحمراء باللغة العربية و الإسبانية و تحتها لوحة جدارية تفصل خارطة أسماء الأبراج و قصور بني نصر و جنة العريف و باقي الأماكن الأثرية.
كل جزء من مساحة القصر العظيم تلفت الإنتباه، ليست هناك زاوية يمكن تجاوز النظر إليها، لا أظن وصف المعلم أمرا هينا، كما أن زيارة واحدة لا تكفي لمعرفته بدقة، و رغم زادي المعرفي عن الحمراء وجدتني أمية به تماما و أنا أجوب مساحته الشاسعة. كان برج الديلافيلا أو برج الحرس أول ما بناه السلطان محمد الأول بن الأحمر .... بعد أن اختار غرناطة مملكة مستقطعة له و لأسرته من جسد مملكة المسلمين الكبرى، المنحسرة يوما بعد آخر تحت قبضة القشتاليين.
صعدت سلالمه الدائرية، و قد رأيت السواح على سطحه و أعلام الدولة الإسبانية تراقص سحاب المدينة الساحرة. من عل، بدت أطراف قصر الحمراء مسورة، و حدائقه معلقة، و تحت التل ينام حي البيازين مترفا لإسبان الحاضر كما كان مترفا لمسلمي الأمس ... من كل نواحي البرج تظهر غرناطة مطمئنة آمنة بحراسة الديلافيلا، و كما ساهم في أمن بني الأحمر لأكثر من مئتي سنة، اليوم يحمي غرناطة للأبد، دليلا على موت بناته و خلفهم الجسدي و المعنوي.
لقد أكل الحكام العرب منذ عصر الأندلس شجرة حب الدنيا و السلطان، كل جنان الله في الأرض التي ذلت تحت سيوفهم، أصابتهم بهوس الملك و نزغ الحكم، فتقاتلوا أخوة و أبناء عمومة، و تآمر بعضهم على بعض، و استعان الشقيق بالعدو المشترك لصد اطماع شقيقه.
وأنا اتفرس سعادة الإسبان من أعالي برج الديلافيلا، كنت أرى بعميق المرارة احتلال المغرب للصحراء الغربية و تشريده شعبها و سادات كامب ديفد و نهايته المؤلمة، و أصهار الملك حسين الإنجليز و انقلابه على ولاية عهد أخيه، و غطرسة بن علي و هيمنة ليلى الطرابلسي، و صدام يخرج من مخبئه ملوث اللحية أشعث الشعر و القذافي متوسلا مبللا بقاذورات مجاري الصرف الصحي ، و جزية أل سعود لترامب، و مجاعة اليمنيين و دمار سبأ، و موت صالح هاربا،،
يا عائشة الحرة، جئتك كي أردد معك ما قلته لابنك أبي عبد الله الصغير و هو يزفر زفرة العربي الأخير و يسلم غرناطة: "ابك كالنساء، ملكا مضاعا لم تحافظ عليه كالرجال، يا عائشة اليوم تم تسليم القدس، هي أثر بعد عين كحي البيازين حيث بيتك تماما .
بدأت الوحدة تنال مني، طريق حصن الديلافيلا مدينة نائمة على ماضي مرصع بمختلف العلوم، عبرت ممر تشير يافطة صغيرة انه طريق الخروج، هناك كانت النوافير تسكب مياهها الدوارة الصافية، تنتهي شبكتها بحنفية جارية، لفتت انتباهي سائحة مسنة تشرب منها بظمأ، توقعته فضولا يدفعها لمعرفة أسرار تدفق مياه مدينة بني الأحمر، و قد بنيت على مرتفع ينظر لنهر سبيكا بكبرياء و تعال.
لم يكن السواح بالكثرة التي توقعتها، كان دخولي الحمراء سلسا، لكن لغات متعددة تتزاحم في فضاء بني نصر ليس من بينها لغتهم العربية الأصيلة، و لربما كنت العربية الوحيدة الزائرة يومي ذاك. وسط مدينة الحمراء، ما بين القصبة و قصور ملوك بني نصر، شيد الملك الكاثوليكي كارلوس الخامس قصرا ضخما مربعا، كان أجوفا فارغا و باردا، كان عنادا سخيفا مع إرث المسلمين المعماري، بدا لي لقيطا هندسيا، لا يشغل بال أحد، و يبدو كذلك للاسبان أنفسهم ، فهو مفتوح للزوار دون مراقبة او تحديد وقت، كما هي قصور بني نصر ..
مررت به دون اكتراث، أسابق ساعات الزيارة المحددة . ممر أخر قادني إلى حيث سيبلغ بي الحزن مداه، بهو السباع و برج قرماش و قاعة السفراء و قاعة الحكم و بني سراج و بستان الريحان... بعد موقف المراقبة و أفواج السواح يتدفقون من حولي، ولجت حيث كان الأمراء و الوزراء و القضاة و العلماء ... حيث كانت الأميرات و الوصيفات ، حيث نسجت الخطط العسكرية و حيكت الدسائس السياسية،، هناك شعرت بثقل شديد في قدمي، و قفت مجهشة بالبكاء .
كانت شمس المساء تتدفق دفئا عبر النوافذ، لم تكن نوافذ عادية، كان الضوء يسكن المكان كأن الشمس تسطع بداخله، بغرف الحريم، صدح بذاكرتي موشح : جادك الغيث اذا الغيث همى يا زمان الوصل بالأندلس لم يكن وصلك إلا حلما في الكرى أو خلسة المختلس.. كان هنا لسان الدين بن الخطيب شاعرا و فيلسوفا ووزيرا، هنا بحجرات الرخام المذهلة استمع للغيان يغنين موشحه، و هنا أقف بعد سبعة قرون أخرى أردد بحزن ما تمايل له طربا.
أشعر أن اللغة عقيمة، لا تسعفني كي أصف ما شعرت به، كنت أجول أبهية القصر و حجراته، و كلما خرجت من مكان عدت إليه مهرولة، أمني نفسي الحائرة بلقاء أحد ممن كانوا فيه، صرخت همسا:يا عائشة الحرة قومي، لتسمعيني، لربما كنت قصاصة منك و العرق دساس، بل أنني منك حقيقة، فأنا امرأة مهدورة الأمجاد مطاردة الأوطان، و مثلك أستنهض همم رجال أخاف أن يبكوا يوما ما كالنساء وطنا لم يحفظوه كالرجال.
عند بهو السباع، لم يكن الماء ينساب من أفواه التماثيل، كانت مياه النافورة متجمدة،و بدأت الشمس تستعد للإختباء خلف التلال، و أمسيت في القصر أنتظر فعل الظلام به.كانت قاعة الحكم تشهد ترميما يمنع الوصول الى غرفها و حماماتها، لكني جلست القرفصاء حيث كان عرش السلطان، هي جلسة عنه و قد تصور أنه خالد فشغل بملكه الفردي غافلا عن مصير أمته، لم يعد من عرش هناك، مجرد مكان فارغ.
روعة البناء المعماري تشغل كل زوار القصر، و قد وجدت فيها بعض السلوى، قاعة السفراء عجيبة الهندسة ، بنقوشها و رخامها و قبتها الفاتنة، لكن الأجمل هو نوافذها المطلة على جنان القصر و ضفاف المدينة المبهرة، و انا أتجول في رحابها كان دليل اسباني يشرح لفوج بدأ لي أنهم من طلاب الجامعات، كيف كان السلطان يستقبل زواره و سفرائه بهذه القاعة الفسيحة و قد أدار عرشه للنوافذ،كان يقلد خيلاء الملك و كبريائه فيقهقه رفاقه.
أجل، يحق لهم أن يسخروا من تطور علمي و ثقافي لم يحفظ ملك الدولة الإسلامية، و كل ما حفظه شاهد على الهزيمة فحسب ..يحق لهم أن يسخروا من قوم خارت قواهم تحت كيد الصليبيين رغم قوتهم و علمهم .
عند بستان الريحان الخلاب، كان حارس إسباني بعقده الخامس على ما يبدو، طويل القامة، يتجول بأنحاء الفناء، يراقب السواح و يرشد بعضهم، لا أدري ما لفت انتباهه لي، فقد وجدته وجها لوجه معي عند أحد الأبواب العملاقة، لربما لاحظ أني الزائرة المنفردة، و كل الزوار جماعات . عرض علي مساعدته بتوضبح بعض المعالم، و سألني عن بلدي، كنت حينها أعتقد أن الحزن يفور من مآقي، بينما كانت أحداقه تلمع بمكر يقاتل لطفا مصطنعا، قلت له :أنا من الصحراء الغربية، و أنا عربية، و هذا قصر الحمراء بناه أسلافي، كانت مكابرة مني لا جدوى منها، فالرجل يقف بإرثي معتزا وأقف على هامشه مكسورة الخاطر .
كل البساتين التي سعى السلطان محمد الأول لغرسها بالجبل حيث صمم قلعته و حصونه، و عمل على أن تكون مصدر معاش لسكان المدينة الحمراء،أصبحت الآن مجرد تحفة لا حاجة لأحد بثمارها، راعني منظر ثمر الرمان متفجر من فرط النضج و تأخر مواعيد القطاف، و أشجار البرتقال و قد تعفن معلق بأغصانها،،، كل هذا النعيم مجرد صورة تسلب ألباب الناظرين فقط و تدخل للخزينة الإسبانية اموالا طائلة .
كان الخروج صعبا من قصر الحمراء، طريقه وعرة على أمثالي، لا أدري إن كنت أحببت المغادرة ام كرهتها، تهت ، و البرد القارص يغمر أطرافي، كان الحارس إياه يراقبني، رأيته يخطو خطوات واسعة نحوي، وضع آلة كان يحملها بإحدى الزوايا و قال :اتبعيني، طلبت منه أن يرشدني فقط للممر المفضي للخروج من القصر، نظر إلي و قال :هل لك انتظاري نصف ساعة؟ سيارتي بالموقف هناك و بامكاني آخذك لحيث شئت.. قلت له : لا لا ، و أردفت بالحسانية" كصران عمرك " وأنا أجر أقداما متثاقلة مودعة جنة الحمراء، مطرودة دون غفران، أعادني الزمن ليوم الهوان الكبير، و ما كان طمع الحارس الإسباني إلا مكرسا فرضية أن من هزموا هنا لم يخلفوا بعدهم من يصون الأرض و العرض .
--------
* شاعرة ومناضلة عربية من الصحراء الغربية