27 - 04 - 2024

هيكل.. كاتب التقارير !!

هيكل.. كاتب التقارير !!

- الوثائق السرية تكشف كتابة هيكل تقارير للسفارة الأمريكية منذ الأربعينيات

- تغطية الحرب الكورية مجرد "أكذوبة عابرة للقارات" !!

- واشنطن طلبت من هيكل خداع "بني صدر" لتحرير الرهائن

- "الأستاذ" كان اول شخص بتصل به صانع الانقلاب ضد مصدق

الحقيقة أن كتابات محمد حسنين هيكل نفسه تكشف بوضوح عن أن علاقة خاصة تربطه بأمريكا، بوزارة خارجيتها وبمخابراتها، وكأن هيكل يدين هيكل..

في كتابه "مدافع آية الله" يتحدث عن أن أمريكا طلبت منه وساطة لحل مشكلة الرهائن المحتجزين في سفارتها بطهران عام 1980، مرة قبل المحاولة الفاشلة لتحريرهم ومرة بعدها، في المرة الأولى سأله هارود سوندرز وكيل وزارة الخارجية وقتها عما إذا كان على استعداد لمساعدة الرئيس كارتر.. فما الذي يدفع مسئولا رسميا أمريكيا لكي يطلب من صحفي مصري مرموق (أي من دولة بينها وبين أمريكا تضارب شديد في المصالح) مثل هذا الطلب؟، وعلى أي أساس بنى وكيل الخارجية الأمريكية توقعه بإمكانية أداء هيكل لهذه الخدمة للرئيس الأمريكي؟.. وما طبيعة العلاقة التي تسمح لأمريكا بأن تطلب من الأستاذ هيكل طلبا كهذا؟ (حسبما تساءل المفكر اليساري الراحل فؤاد زكريا في كتابه "كم عمر الغضب"

وقد أورد هيكل نص اقتراح المهمة الخاصة كاملا وهو أن يتولى إقناع بني صدر باستخدام كارثة عملية الإنقاذ لإطلاق سراح الرهائن بدواعي الرحمة والعطف عليهم، ولتكون فرصة نادرة لكي يركب بني صدر موجة قومية إسلامية تدعم مركزه ويمكن تقديم نفس الفكرة للخوميني، وبذلك يظهر مختطفو الرهائن كأبطال قوميين!

وربما أن ما أورده هيكل ليس هو بالضبط المهمة المطلوبة منه، بل إنه يثبت أن الأمريكان اختاروه شخصيا للقيام بعملية خداع وتضليل لعقول القيادة الإيرانية، مستغلا مشاعرهم الإسلامية، وقد تصور هيكل أنه دافع عن نفسه حين قال إنه لم يقم بتنفيذ المهمة، لكن هذا ليس دفاعا على الإطلاق، فالمشكلة تكمن في الطلب وليس في المهمة ذاتها، فمن أين جاء أمل الأمريكيين أن يشاركهم هيكل تمثيلية خداع على الإيرانيين أي أن يخاطبهم كوسيط بينما نيته هي أن يستغل سذاجتهم لصالح أمريكا؟، وما نوع العلاقة التي تربط هيكل بالأمريكان حتى يطلبوا منه ذلك؟

وكأن هيكل يدين نفسه.. ربما تخيل أنه ينفي أي اتهام بنشر الرسالة، دون أن يدرك ما تكشفه عن الطريقة التي ينظر بها الأمريكيون إليه، فمن المستحيل أن تطلب أمريكا من شخص عادي مهما كانت مكانته أن يعرض نفسه للخطر من أجل أداء خدمة لصالحها، ولو كان من كلفه بالمهمة أساء التقدير وتصور خطأ أن هيكل يمكن أن يقوم بهذا لحسابها، فإن لهذا الخطأ دلالته البالغة، لأنهم لا يمكن أن يكشفوا أوراقهم على هذا النحو لأي شخص غير مرتبط بهم.

وكان المنطقي في حالة خطأ أمريكا أن يرد هيكل بعنف لا مجرد الاعتذار، وإنما يستنكر الطلب كأن يقول مثلا: هل تتصورون أنكم تخاطبون شخصا يعمل لحسابكم حتى تطلبوا مني شيئا كهذا!! وكيف تتخيلون أنني سأقوم بعملية خداع واستخفاف بعقول أناس يثقون في؟ ولكن هيكل لم يفعل ذلك، بدليل أن كل انتقاده للأمريكيين بعد نشره للرسالة اقتصر على "ابتعاد تفكيرهم عن الواقع"، والدليل الأهم على أنه لم يستنكر طلب الأمريكان ولم يوقفهم عند حدهم أنهم عادوا فبعثوا إليه برسائل أخرى!

ضمير مصر الأمريكي

دراويش هيكل في مأزق مركب، ففي دفاعهم عنه لا يملكون غير كلام عابر ولغة إنشائية ومبالغات غير مفهومة، أحدهم أبدى دهشته ذات يوم في عام 1996 عندما تصدى مجموعة من شباب الصحفيين في جريدة الدستور –في إصدارها الأول- لانتقاد هيكل، متسائلا "كيف تنتقدون هيكل وهو "ضمير أمة"؟، على الرغم أن "ضمير أي أمة" لا يمكن أن يختزل في شخص، وقتها قلت له إن من الخطأ منح مثل هذا اللقب المجازي لعبد الناصر نفسه - رغم عدم الاختلاف بيننا على وطنيته وحسه الاجتماعي والإنساني وإنجازات حكمه – وأن التعبير ربما يكون منطقيا لو أطلقناه على مجموعة من الزعماء وقادة الرأي ورواد الثقافة والفن على مدار تاريخ مصر الحديث. فهل يبدو منطقيا أن يكون "ضمير الأمة" حسب تعبير درويش هيكل القديم على علاقة مثيرة للشكوك مع مسئولين أمريكيين أغلبهم ينتمون لأجهزة المخابرات الأمريكية ومنذ وقت مبكر للغاية في سيرته الصحفية؟ وأن يتمتع بنفوذ عجيب لديهم حتى أن اللقاءات الثلاث التي تمت عام 1953 بين عبد الناصر وولتر ليبرمان -أعظم صحفيي القرن العشرين بتعبير هيكل- قد جرت في منزل هيكل،وحسب نص كتابه "ملفات السويس"صـ 281. في ذلك الوقت كان هيكل شابا محدود الشهرة، أكبر إنجازاته الصحفية تغطيته المنحازة تماما لوجهة النظر الأمريكية في الحرب الكورية، (هذه التغطية نفسها- حسب الدكتور فؤاد زكريا في كتابه "كم عمر الغضب"- مجرد أكذوبة عابرة للقارات، يدعي هيكل أنه كان المراسل الوحيد من الشرق الأوسط الذي غطى الحرب الكورية والقصة الحقيقية هي أن أخبار اليوم أوفدته في رحلة للولايات المتحدة عام 1950 بناء على دعوة تلقتها الدار، لكنه طلب أن يكون خط سير الرحلة عن طريق الشرق الأقصى، وفي مطار سيول بكوريا الجنوبية قضى ثلاث ساعات في انتظار انتهاء فترة ترانزيت الطائرة قبل إقلاعها إلى واشنطن، استغلها هيكل في كتابة رسالة لأخبار اليوم، ذكر فيها أنه قام بتغطية الحرب الكورية، وظل يروي القصة مرارا وتكرارا حتى صدقه كثيرون).

في كتابه"ملفات السويس"يشير هيكل لاجتماعاته الكثيرة مع رجال المخابرات الأمريكية، فكيرميت روزفلت مهندس الانقلاب ضد مصدق في إيران لصالح شركات البترول كان -حسبما أورد هيكل- دائم التردد على مصر خلال السنوات الحرجة بين 1952 و1956، وكانت اجتماعاته السرية مع عبد الناصر تعقد في بيت هيكل (ملفات السويس صـ 359 وما بعدها). ويذكر هيكل أن جيمس إيكلبرجر الوزير المفوض بالسفارة الأمريكية في القاهرة، اتصل به في الساعة 1.20 فجر يوم 27 سبتمبر 1955 ليسأله عما إذا كانت صفقة الأسلحة الروسية قد عقدت بالفعل، وهو أمر يدعو للاستغراب بلا شك..

مسئول أمريكي (هو في الأصل رجل مخابرات كما ذكر هيكل في كتب أخرى) يسأل شخصا مقربا من الرئيس المصري عن موضوع تحرص الدولة على أن يظل سرا..الأعجب أن هيكل يعقب بقوله "ولم أعطه إجابة مباشرة"، دون أن يفصح ماذا كانت إجابته، والأهم أنه لم يحتج على السؤال، ويواصل المسئول الأمريكي إلحاحه "أرجوك اتصل بالرئيس فورا وانصحه بالانتظار قبل الإقدام على شيء نهائي.. لكي لا يحرق جسوره!"

لم يكن حوار ما بعد منتصف الليل إذن مجرد تبليغ رسالة، فقد طلب الرجل من هيكل أن يقنع ناصر بتغيير رأيه، فلماذا طلب المسئول الأمريكي من هيكل بالذات هذا الطلب، مع أن أصحاب النفوذ لدى ناصر كثيرون؟

ويتابع هيكل -في ملفات السويس أيضا- "حين وصل كيرميت روزفلت في الليلة التالية، أبلغني إيكلبرجر أن روزفلت سينزل في بيته حرصا على السرية.. واقترح أن أمر عليهم في الصباح لتناول الإفطار والتحدث بصفة غير رسمية قبل لقاء روزفلت بعبد الناصر"، بما يعني أن هيكل هو أول مصري يتصل به مبعوث المخابرات الأمريكية صانع الانقلاب ضد مصدق، حول موضوع صفقة الأسلحة الروسية.

 ثم تكررت اللقاءات، وعندما تأزمت الأمور ورفض ناصر لقاء روزفلت كان هيكل صاحب الحل الوسط، هو أن يدعو الطرفين على العشاء في بيته في مقابلة "ذات طابع اجتماعي وشخصي". ترى ما نوع الأحاديث التي يمكن تبادلها، والأرضية المشتركة التي يمكن التلاقي عليها بين المتحدث بلسان عبد الناصر قائد الثورة الوطنية ومدبري أقذر الانقلابات في المخابرات المركزية.. وما هي طبيعة العلاقة الحقيقية بين هيكل وهؤلاء!

 ننتقل إلى تساؤل ربما يكون أكثر إحراجا..جيمس إيكلبرجر الذي كان وثيق الصلة بهيكل في ذلك الوقت، كان شخصا مريبا إلى حد بعيد، لقد كان أكبر رجال المخابرات المركزية في مصر، ومن المرجح بدرجة كبيرة أن هيكل كان يعرف صفته الحقيقية، ومع ذلك فإن الطريقة التي تحدث بها هيكل عنه ملفتة للنظر بشدة.

يقول مايلز كوبلاند في كتابه"لعبة الأمم" إن "جيمس إيكلبرجر رئيس شبكة العملاء في السفارة الأمريكية التقى هيكل كثيرا، وكان يوقظه من نومه في الثالثة صباحا ليسأله عن صحة بعض الأخبار المتعلقة بناصر والسوفيت"،وهو ما ذكره هيكل بنفسه أيضا في كتابه "بين الصحافة والسياسة". أما كتابه "ملفات سرية" الذي نشر على حلقات في الأهرام والوطن الكويتية قبل إصداره في كتاب، فيقدم لنا مفاجأة خاصة عن صلة هيكل بأيكلبرجر وآخرين، في الحلقة 23 نجد العبارة التالية "تبين فيما بعد أنه كان مسئولا عن محطة المخابرات المركزية في مصر، وأن غطاءه الرسمي لهذا العمل كان إرساله إلى القاهرة بوصفه الوزير المفوض للسفارة الأمريكية فيها".

 هذه العبارة تغيرت صيغتها تغيرا ملحوظا عند نشر الملفات ككتاب، في صـ 403 يقول "عقدت الاجتماعات بين الطرفين.. وهما جيمس إيكلبرجر الذي أصبح مسئولا عن نشاط وكالة المخابرات المركزية في مصر وجورج يونج مسئول العمليات الخاصة". ويتكرر مثل هذا التعديل حين يتحدث هيكل عن اتصاله برجل مخابرات أمريكي آخر في الحلقة 32 المنشورة في الصحف، فنقرأ "في الليلة نفسها.. التقيت بالمستر هاري كيره، نائب رئيس تحرير مجلة نيوزويك، الذي تكشف فيما بعد أنه مدير جهاز مخابرات شركات البترول الأمريكية العاملة في الشرق الأوسط"، لكن النص نفسه المنشور في صـ 501 من الكتاب يحذف عبارة "والذي تكشف فيما بعد أنه".

الاختلاف في النص يمكن تفسيره على أحد وجهين: إذا كان هيكل قد قام بإعداد نص الكتاب أولا قبل الحلقات المنشورة في الصحف، فمعنى ذلك أنه أضاف إلى الحلقات عبارة "واتضح فيما بعد أنه..." أو "وتكشف فيما بعد أنه..." لكي يوعز للقارئ بأنه لم يكن يعرف صفة قطبي المخابرات حين تحدث إليهما، وإذا كان قد أعد الكتاب بعد الحلقات، كان المعنى أن هيكل بعد أن حاول القيام بالتغطية على نفسه في الصحف، وجد أنها غير مجدية فحذفها.

 لكن المؤكد منطقيا أن هذه واحدة من الحالات القليلة التي نجد فيها اختلافا بين النص الصحفي "للملفات السرية" ونصها في الكتاب، ومجرد وجود هذا التغيير وإجراء هيكل تعديل واحد في الحالتين يدل على أن الصيغة التي يمكن أن يقدم بها للقراء طريقة اتصاله بهذين الرجلين المريبين قد شغلت تفكيره كثيرا، وأن شيئا غير مريح في الموضوع كان يشغله!

 ومن المهم أن نتعرف قليلا على شخصية إيكلبرجر - ومن خلال هيكل أيضا وليس من مصادر أخرى- لكي نثبت لكل ذي عينين أننا لا نتجنى على الرجل، وأنه على الأرجح هو أفضل من يدين نفسه..في 405 من كتاب "ملفات سرية" نقرأ التالي: "يروي إيكلبرجر في تقريره عن الاجتماع (بينه وبين ممثل المخابرات البريطانية الذي طرح فكرة اغتيال عبد الناصر) أنه شارك من قبل كثيرا في اجتماعات مخابرات بحثت فيها عمليات قذرة، ودبرت فيها محاولات اغتيال، ولكنه لم يسمع أبدا في أي منها كلمة الاغتيالات تذكر بهذا الشكل الفاضح.. ففي تجاربه السابقة كان اغتيال شخص يوصف بـ "التخلص منه" أو تصفيته، لأن الناس في العادة يتجنبون كلمة الاغتيال لأنها لا يصح أن تجري على لسان جنتلمان".

أي أن إيكلبرجر مسئول المخابرات المركزية الأمريكية – ووفقا لهيكل وليس وفقا لمصدر آخر- قد شارك في تدبير محاولات اغتيال كثيرة، لكنه يعتبر استخدام لفظ الاغتيال أبشع من الاغتيال نفسه، ويرى أن جريمة مندوب المخابرات البريطانية ليست تفكيره في الاغتيال، بل في استخدام الكلمة نفسها، وأن من يدبر جريمة اغتيال يجب أن يكون مهذبا حين يقتل، فيقول إنه "تخلص" من الضحية أو "صفاها"!!

هذا هو إيكلبرجر الذي كان دائم التعامل مع هيكل الشاب، في العلن والخفاء خلال أكثر سنوات الثورة حرجا ، والذي طلب من هيكل إقناع عبد الناصر بتغيير موقفه من صفقة الأسلحة الروسية في محادثة هاتفية فجريوم 27 سبتمبر 1955.

هل يمكن أن يكون لدى هيكل تفسير آخر لمثل تلك العلاقة غير ما تؤكده القراءة المنطقية لما كتبه هيكل بنفسه؟ إذا وضعت ماسبق في اعتبارك سيبدو المشهد أكثر ترابطا.. ويبدو منطقيا أن الصحفي المغامر محمد حسنين هيكل لم يكن وحده هو الذي يتحرك في هذا المجال المريب، بل كاتب التقارير السياسية لسفارة أجنبية!

فها هو الباحث الدكتور عبد الرؤوف أحمد عمرو ينقل عن دراسة عنوانها "الوثائق السرية الأمريكية عن تاريخ مصر قبل الثورة" والمنشورة بجريدة الجمهورية بتاريخ 21 مايو 1978، تقريرا مؤرخا بـ 5 يوليو 1949، يقول التقرير إن "محمد حسنين هيكل مراسل مجلة آخر ساعة الأسبوعية قدم تقريرا مطولا للسفارة الأمريكية بالقاهرة عن حقيقة التغيير الوزاري المفاجئ، حيث أكد في هذا التقرير رغبة الملك في التفاوض مع بريطانيا حول إبرام معاهدة جديدة، وأن حسن يوسف رئيس الديوان كان وراء إقناع الملك بهذا التغيير الوزاري المفاجئ.. وأرفق معه صورة من مضبطة رئاسة مجلس الوزراء/ج 3 مايو/يونيو 1949 وجلسة 12 يونيو 1949".

هل هذا هو من يستحق لقب "ضمير الأمة المصرية" حسب تعبير الأستاذ يوسف القعيد خلال نقاش بجريدة الدستور - في إصدارها الأول- عام 1996 كان من بين أطرافه الزميلان الصحفيان جمال فهمي وحمدي رزق

##






اعلان