كاهن يبحث عن فرعون
- قناة المعلومات لناصر والسند الرئيسي للسادات ثم المنظر لدولة طنطاوي
- مايلز كوبلاند : لسنا بحاجة لسفير في القاهرة بوجود هيكل
يعترف الزميل "أيمن شرف" مؤلف كتاب "هيكل .. كاهن يبحث عن فرعون" أنه ينتمي إلى جيل تربى على كتابات محمد حسنين هيكل، ويؤكد في الوقت نفسه أن تلك الكتابات حالت دون إدراكه الكامل لأخطاء محمد حسنين هيكل ، أشهر الكتاب في الصحافة العربية على مدى عقود .
شرف كما يقول: "لا يهدف بكتابه إلى النيل من الرجل، وإنما يريد تقديم رؤية ناقدة تحرص على استجلاء الحقيقة بعيدا عن حالة التبجيل السائدة في الإعلام المصري للرجل ، معتبرًا كتابه بمثابة إلقاء حجر في مياه راكدة لكي يتربى لدينا جيل جديد ذو رؤية نقدية.
فكرة تأليف كتاب يرصد تناقضات محمد حسنين هيكل، الصحفي والسياسي ، لم تكن وليدة لحظة أو محض صدفة، لدى أيمن شرف، بل كان مخططاً لكتابه أن يصدر قبل عدة سنوات، ونبتت فكرته بالتحديد عام 2001 في إطار مقارنة عقدها بين كتاب هيكل "خريف الغضب" ومقاله المطول "وقفة مع الصديق الأمريكي" الذي نشر في مجلة وجهات نظر في إبريل 2001، ونشر تلك المقارنة في مقال على صفحتين في جريدة الاتحاد الإماراتية في ذلك العام.
ويوضح أيمن شرف أن طموح "هيكل" لأن يكون "كاتب الحاكم" كان يدفعه بقوة بأن يقدم نفسه على الدوام (كاهنا جديدا للفرعون الجديد)، مستشهدا بقول الكاتب والروائي الكبير فتحي غانم إن "هيكل كان يقول دائما وبقناعة مطلقة إن الحاكم محتاج لصحفي يعبر عنه وسأكون أنا هذا الصحفي".
وتناول شرف أسباب حرص هيكل على التقرب من جمال عبد الناصر، مؤكدًا أنه لعب دورا أكبر من مجرد كاتب يصوغ أفكار الرئيس، بل دور قناة المعلومات والوسيط بين ناصر والباب الخلفي لصناعة القرار السياسي في أمريكا "أجهزة المخابرات"، وكوادرها في السفارة الأمريكية بالقاهرة ، حتى أن كثيرين اتهموه صراحة بالعمالة للمخابرات المركزية الأمريكية.
كذلك تطرق شرف إلى انحياز هيكل للسادات رغم تحفظاته عليه واتهامه له بتلقي رشوة قدرها 35 ألف دولار من لاجئ سياسي كويتي إلى مصر هو الشيخ المبارك الصباح، مؤكدًا أن هيكل لم يكن في حاجة لتقديم أوراق اعتماده في وظيفة الكاهن بعد موت عبد الناصر، حين قدم للسادات خدمة جليلة ساعدته في تثبيت نفسه بمنح غطاء إعلامي لإقصائه القيادات المرتبطة بعبد الناصر ونهجه.
وذكر مؤلف كتاب "كاهن يبحث عن فرعون" أن هيكل كرر محاولته تلك في زمن لاحق، حينما قال في حوار للأهرام (15 مايو 2011) أنه "لا يجد حرجا في تسمية المشير محمد حسين طنطاوي رئيسا للدولة في هذه المرحلة الانتقالية"، وراح يُنظر تنظيرا لغويا صرفا لكي يفرق بين ما يسميه رئيس الدولة ورئيس الجمهورية ! وكأن هيكل لا يدرك أن زمن الفراعين قد انتهى، أو أنه يدرك ذلك لكنه يبحث لنفسه ولابنه أحمد عن مخرج من شواهد على تورطه في علاقة بيزنس غير بريئة مع جمال مبارك، تتعلق باستغلال النفوذ والشراكة في مؤسسة نمت بشكل خرافي خلال سبع سنوات فقط من 2004 إلى 2011.
في ندوة حول الكتاب دعا عبد العال الباقوري وكيل نقابة الصحفيين الأسبق، إلى تبني نهج نقدي في تناول كل مايمس تاريخنا لكن دون الجنوح نحو التخوين واصدار احكام بالعمالة، ونوه الباقوري إلى أن مهمة الصحفي صعبة وقديكون ضمنها الالتقاء وتبادل المعلومات مع شخصيات متنوعة دون ان يعني ذلك شيئا سلبيا، مؤكدا أهمية ألا يكتفي صحفيو مصر (المهتمون بتاريخها) بكتابة المقالات، وإنما بتأليف كتب لتوثيق هذا التاريخ.
في الندوة ذاتها ، التي عقدت حول الكتاب، أشار جمال عليوه إلى أن هيكل ليس كاتب ولا منظر الناصرية كما يشاع، لأن الناصرية الحقيقية هي الانحياز الاجتماعي واتخاذ موقف ضد الهيمنة الأمريكية، وأنه أقرب إلى أن يكون منظر المشروع الساداتي بليبراليته ودفاعه عن الولايات المتحدة. فيما أشاد الكاتب "خالد محمود" بالجهد الذي بذله المؤلف في التحضير والكتابة، وقال إن "شرف كسر الاتفاق غير المعلن في الحالة الصحفية والسياسية والثقافية بتقديس هيكل الشخص والكتابة.. فقد ظل هيكل عبر خمسة قرون تقريبا "البقرة المقدسة" التي لا يصح الاقتراب من نقدها ونقد طروحاتها، إلى درجة أن أصبح انتقاد هيكل حدثا في حد ذاته، بل يتعرض صاحبه لنهش معنوي شرس، وهنا تكمن بداية كارثة فكرية وثقافية وتربوية".
وأشار خالد محمود إلى أن الأشخاص الذين مثلوا أيقونات لدى شعوبهم كانوا إما ثوارا بحجم سبارتاكوس أو مانديلا أو تشي جيفارا ممن غيروا حياة الناس والشعوب وتحدوا طغاتها وارتبطوا برفع مظالمها أو كتابا ثوريين أحدثت كتاباتهم ثورات وانقلابات اجتماعية وشكلت انحيازات حقيقية في حجم مونتسيكيو وكارل ماركس وسارتر وناعوم تشومسكي، لكن أن يتم هذا الأمر مع صحفي سلطة ومنظر واقعية سياسية لم يعرف عنه يوما انحيازه لحركة ديموقراطية أو شعبية، وبدأ كتاباته بمقال "عيد ميلادك يا مولاي" الموجه للملك فاروق، وكان الكاتب الفرد في زمن الحاكم الفرد.. فهذا معناه أننا نعيب زماننا والعيب فينا.
هيكل ضد هيكل
"دراويش" هيكل ممن اعتادوا تبجيله ومنحه ألقابا غير منطقية على شاكلة "الأب الروحي للصحافة في العالم" و"أهم صحفي في تاريخ الصحافة" (مثلما قال الزميل حلمي النمنم في معرض الكتاب في الأول من فبراير 2014) يجدون أنفسهم في مأزق حين يواجهون نقدا موضوعيا علميا لسيرته ، فمن اعتاد لسنوات ارتداء غمامة التقديس لشخص ما يجد صعوبة في نزعها عن عينيه ليرى الحقيقة المرة دفعة واحدة، فيلجأ للتشكيك في نوايا ودوافع منتقدي هيكل ويتهمهم باتهامات يصعب التدليل عليها، ومن المعلوم أن النوايا والدوافع لا دليل عليها، من أمثلة تلك الاتهامات أن المنتقدين "هواة شهرة أو مدفوعون من جهات وأنظمة انتقدها هيكل"، ولا ينتبه الدراويش أنهم عرضة أيضا لاتهامات مشابهة – يصعب التدليل عليها أيضا لأنها تندرج في باب النوايا والدوافع- مثل أنهم "منافقون أو تتملكهم مشاعر الدونية وعبادة الفرد أو طامحون لأن ينعم عليهم هيكل صاحب الامبراطورية المالية والإعلامية والنفوذ الواسع ببرنامج تليفزيوني هنا أو منصب إعلامي هناك أو نشر كتاب لأحدهم في دار نشر يسيطر عليها مقابل عشرات الآلاف من الجنيهات"، عندئذ يخرج الجدل حول هيكل من حيز الموضوعي إلى حيز اتهام الأشخاص والنيل منهم فينحط مستوى النقاش.
ادعاء وحيد لدراويش الأستاذ ربما يستحق التعقيب، أن هيكل يترفع عن تحريك دعاوى قضائية ضد منتقديه من الصحفيين.. وقد يكون صحيحا، لكن السؤال الذي لا يستطيع هؤلاء أن يطرحوه على الأستاذ في جلساتهم الخاصة، منفردين أو جماعات، هو لماذا "يترفع" هيكل عن تحريك دعاوى قضائية ضد منتقديه من غير الصحفيين؟ مثلما لم يفعل مع الرئيس الراحل محمد نجيب، الذي قال في كتابه "كلمتي للتاريخ" إنه استعلم عن هيكل حين حاول التقرب إليه في بدايات ثورة يوليو 1952، فجاءته نصيحة المخابرات الحربية "بعدم الجلوس مع شخص يتعامل مع وكالة المخابرات المركزية الأمريكية ولأنه كان يتقاضى مقابل إعلانات من عبود باشا في صحيفة آخر ساعة وأخبار اليوم"؟، وما قاله نجيب كان في سياق رده على اتهام هيكل له بتقاضي رشوة من المخابرات المركزية الأمريكية قدرها 3 ملايين دولار، ورفع نجيب دعوى ضده، ورفض التنازل عنها ما لم يعتذر هيكل الذي اعتذر بالفعل على صفحات الأهرام.
لغز كراين وكوبلاند
الأغرب أن هيكل لم يرفع دعاوى قضائية ضد ولبر كراين إيفيلاند -ممثل البنتاجون في التفاوض على صفقات السلاح مع مصر في عهد عبد الناصر- الذي قال في كتابه "حبال من الرمال": "منذ أوائل الخمسينيات جند كيرميت روزفلت ومحطة السي أي إيه في القاهرة، ثلاثة من الصحفيين المصريين البارزين "كعملاء" للمخابرات الأمريكية هم محمد حسنين هيكل والأخوين مصطفى وعلى أمين".. فلم يرد هيكل على ذلك ولم يقاض المؤلف ولا ناشر الكتاب، وكان جديرا به أن يفعل ذلك، حتى أن الكاتب محمد جلال كشك عبر عن غضبه الشديد لسكوت هيكل على هذه الاتهامات الخطيرة، وطالبه برفع دعوى ضد المؤلف صيانة لشرفه وشرف مهنة الصحافة، فلم يرد هيكل، فتقدم ببلاغ على يد محضر لنقابة الصحفيين لكي تدافع عن شرف "أشهر" صحفي مصري، وأن تطلب النقابة من هيكل أن يرد على هذا الاتهام الصريح، وأن يتقدم للقضاء الأمريكي ضد المؤلف والناشر يطالبهما بإثبات دعواهما أو الاعتذار ومصادرة الكتاب ودفع التعويض، وطلب كشك من النقابة أن تتضامن بدورها مع هيكل في رفع القضية ماديا وأدبيا، فلم ترد النقابة، ولم يرفع هيكل دعوى قضائية، والأغرب من موقف هيكل أنه استشهد بكتاب "حبال من الرمال" في العديد من كتبه كمصدر مهم للمعلومات!
ولم يرفع هيكل أيضا دعوى قضائية ضد مايلز كوبلاند مدير محطة المخابرات الأمريكية في القاهرة في الستينات والذي قال في كتابه "بدون عباءة أو خنجر": "ليس ضرورياً أن يكون الإنسان عميلاً بالمعنى الشائع للعمالة لكى يؤدى الخدمة المطلوبة، إنما يكفى أحياناً مع بعض الأشخاص أن تعقد المخابرات معهم نوعاً من الاتفاق الودي لتبادل المعلومات لكى يصبح بالنسبة لهم أكثر أهمية من أكبر عميل.. ولنضرب مثالاً هو محمد حسنين هيكل الذى كتب أعنف مقالاته ضد أمريكا وكانت مرتكزة على معلومات أعطيت له من السفير الأمريكى فى مصر مقابل أن يعطى هيكل معلومات تفصيلية إلى السفير الأمريكى مع ذكر مصادرها وكيف استطاع الحصول عليها"، ولم يقاض هيكل أيضا لوسيوس باتل السفير الأمريكى الأسبق فى القاهرة الذي كتب أن "هيكل فى جميع مراحل تعامله معي لم يخل أبداً باتفاقه مرة واحدة"، حسبما ذكر رجب البنا في كتابه "هيكل بين الصحافة والسياسة" صـ 162.
مايلز كوبلاند قال أيضا في كتابه "لعبة الأمم" الذي ترجم إلى العربية بعنوان "حياة مايلز كوبلاند" إن "الرئيس عبد الناصر دأب على الاستماع لنصائح مساعديه ومرافقيه وأصدقائه الذين يستريح معهم بعد يوم عمل طويل، هناك على سبيل المثال صديقه المقرب محمد حسنين هيكل، الذي يستطيع أن يمرر لناصر "الكلمة" الأمريكية بطريقة مقنعة أكثر من أي سفير أمريكي في مصر.. حتى أننا اعتدنا المزاح في وكالة المخابرات المركزية أنه بوجود هيكل جوار ناصر لسنا في حاجة إلى سفير في القاهرة، طالما كان هيكل يمضي نحو ساعة كل أسبوع يقرأ فيها لناصر المعلومات المفصلة الواردة من واشنطن والتي يقدمها له رئيس محطة المخابرات المركزية... وهنا لا يمكن القول إن هيكل عميل للمخابرات المركزية، لكن المعلومات التي يمررها لناصر خدمة لأهدافه هي عادة ما تخدم أهدافنا أيضا".
واكتفى هيكل بالرد على كوبلاند نافيا ما قاله، لكنه "ترفع" على ما يبدو عن تحريك دعوى قضائية ضده، فما هو سبب الترفع في تلك الحالة أيضا؟ هل يرتبط هيكل مع كل من ولبر كراين إيفيلاند المسئول العسكري الأمريكي الأسبق، ولوسيوس باتل السفير الأمريكي الأسبق، ومايلز كوبلاند مدير محطة المخابرات المركزية الأسبق بزمالة في مهنة ما؟ مجرد سؤال منطقي.
##