28 - 03 - 2024

إنه فكري الجزار.. أبي

 إنه فكري الجزار.. أبي

لماذا أنت ناقد ؟.. سؤال غريب بذاته، وغريب بأني لم أتوقع أن يوجه إليّ يوما ما، كأني بمن يسألني يحجب سؤال آخر هو الأولى، وينتظر من إجابتي على ما أظهر ما يفيده فيما أبطن. وانسجاما مع منطق الحوار الالتفافي، سأعيد صياغة السؤال لأواجه نفسي : لماذا أنت أنت ؟.. حقيقة لماذا أنا أنا ؟ ساعات صمت طويلة تمر وأنا أواجهني بهذا الشكل الفج، وأبدو عصيا على الانكشاف حتى لي. إذن، وفي ظل هذا الاستعصاء، اسمحوا لي أن ألجأ إلى "ربما"، لأترجح بين اليقين واللايقين وأشق طريقا يطمئن لا وعيي في محاولتي  الإجابة.. لقد تفتح وعيي أول ما تفتح على مكانة أدبية (معنوية) أتربع عليها ما إن أنطق اسمي كاملا، وأسمع أثناء ذلك كلمات عن أبي لا أستطيع أن أقطع اليوم أني كنت أحيط بمعناها من قبيل وطني.. ثائر.. رجل، كل ذلك بنبرة يمتزج فيها فرط الإعجاب بفرط التعجب. وكان من جراء هذا أن التصقت بابي لا باعتباره ابي، بل باعتبار الصفات التي أسمعها عنه. أجلس وأطيل الجلوس إلى جانبه وهو مستغرق في قراءة كتاب من كتبه الكثيرة جدا والتي فاضت عن مكانها المحدد فدخلت إلى خزانة ملابسه وتناثرت على سريره ثم غزت بقية غرف المنزل. فإذا ما قام لبعض شأنه التقطت الكتاب أحاول الإحاطة سريعا بموضوع اهتمامه، ليضحك مني عندما يعود إلى كتابه قائلا لي أتريد قراءته وبسرعة أجيبه نعم، فيدفعه إليّ. وهكذا نشأت علاقة معرفية بيني وبين أبي، إلى أن بدأت أمد يدي على كتبه كلها وليس ما بين يديه فقط، فابتعدت مسافة تسمح لي بالاستقلال عن عقله، وما كنت أدري أني محكوم به شئت أو أبيت. أعود إلى السؤال الأصلي : لماذا أنت ناقد ؟.. يبدو أن الثرثرة السابقة ينقصها نوع الكتب التي كانت تزاحمنا حتى مضاجع جنوبنا، لقد كانت شديدة التنوع والاختلاف من الأدبي للعلمي ومن الديني للإلحادي وعن القانوني والاقتصادي والسياسي والتاريخي قل ما شئت. وفيما يبدو لي أن هذا التنوع الذي أدركت جانبا غير هين منه مبكرا، أعني قبل الجامعة، جعل تخصص النقد الأدبي التخصص الوحيد الذي يجمع كل هذا، وبخاصة أني لا أحب هذه الصفة، فالنقد نقد يكون موضوعه أدبا ويكون غير ذلك من موضوعات يمكن إخضاعها للامتحان النقدي.. ها أنذا أجد الإجابة، فلو أن أبي كان أحادي الثقافة لاخترت تخصصا أحادي الفعل.. حقيقة إنه فكري الجزار.. ابي، هذه هي الإجابة.






اعلان