19 - 04 - 2024

ليَسقُطْ نِظامُ النَّقد...

 ليَسقُطْ نِظامُ النَّقد...

لم يُفلح النقد العربي الحديث، على وفرة نَتاجه، في تأصيل ممارسة نقدية مناسبة لثقافة نصوصنا الإبداعية. حيث ظلّ أغلب ما كتب فيه مجرّد تطبيقات تجريبية لمناهج وافدة ذات مَيْزات فكرية وجمالية قد تتقاطع حينا مع ثقافتنا العربية ولكنها تختلف عنها أحيانا أخرى كثيرة. وهو أمر بدت فيه الكتابة النقدية كلاما عاما وأجوفَ وشبيهًا بِجُبّة تصلح لكلّ مقاسات أجساد النصوص الإبداعية المُنجَزة في النثر والشعر بقديمها وحديثها أو حتى تلك التي لم تُنجَز بعدُ. بل إننا لا نعدم في مدوّنة النقد العربي الحديث وجودَ نقّاد يستجلبون المنهجَ ويُطبّقونه بأمانة على نصّ من زمن الجاهلية كما يطبّقونه على آخر من القرن الحادي والعشرين دونما وعيٌ منهم بأن لكلّ منهج قرائي حاضنةً حضاريةً هي منه مُحدِّدٌ من مُحدِّدات مقولاته الجمالية، ودون تبصُّرٍ لديهم بما لحركة الزمن من تأثير في سياقات حَدَثِ الكتابة وفي شروط فعل التقبّل معًا، لا، ولا حتى تنبّه منهم طفيف إلى اختلاف ذاكرة النصوص وتنوّع هواجسها الثقافية.

ولعلّ في هذا التوصيف ما يُجيز لنا القولَ إنّ ممارستنا النقدية لا تزيد عن كونها ممارسة نمطيّة وباهتة، فلا تُقبِلُ على النصوص إلا متى وافقت هواها المنهجيّ، وإذا أقبلت عليها لا تراها إلا جالسة على رقاب معانيها وحاشرة إيّاها بالقوّة في خانات نقدية غالبا ما تُشوِّه فيها صُورَها الفنية وتُجبرها على قول اعترافات لم تخطر على بالها أبدا، بل وربما كانت اعترافاتها مناقضةً أصلا لبنيتها الفنية ولمزاجها الثقافيّ. لا يعني قولنا هذا رفضا منا للمناهج، وإنما هو دعوة إلى الوعي بفلسفاتها وبحدودها الإجرائية، وفي زعمنا أنّ المنهج هو الذي يحتاج إلى نصّ إبداعي ليُثبِت به صدقيتَه وليس النصّ الإبداعي هو المحتاج إلى منهج ليثبت به إبداعيته، وهذا ما لم يأخذه الناقد العربيّ في حسبان ممارسته النقدية، حيث اختار أن يكون مُوظَّفَ معرفة عالِمة، بكل ما تعنيه الوظيفة من التزام بإنجاز مهامّ معلومة مُسيّجة بمحاذير صارمة، وكلّما أخلص لوظيفته وآمن بأوهام بهجتها المعرفية ودافع عن قوانينها بشراسة المؤجَّرين كلّما نال رضاءَ مؤسّسة النقد التي تُؤجِّره وكُتِب في سجلاّتها من الناقدين. والحريّ بنا التذكير به في هذا الشأن هو أننا لم نعد نلفي في المنجز النقدي العربي الحديث حقيقة النصوص وما يعتمل فيها من معنى، وإنما صرنا نقف فيها على حقيقة آراء النقاد، وهو ما يمكن معه القول إنّ الكتابات النقدية، في أغلبها العامّ، يمكن أن تمثّل عيّنات تشخيصية لأمراض النقاد النفسية والحضاريّة وذلك من جهة ما تكتظّ به من نوايا قرائية مُسقَطة على النصوص سواء أكانت تروم مدحَها أم ذمَّها.

وفي خضمّ هذا الصراع الحادّ بين ما يُسمّى ثورات تنزع إلى تأسيس وعي حضاري جديد وما يُسمّى ثورات مضادّة تروم تكريس السائد وتجميله، فإنّ النقد العربي الراهن مدعوّ اليومَ إلى الانتصار إلى كلّ جديدٍ وحُرٍّ وإنسانيّ، والخروج من قاعات الحَشْر الجامعي وبروتوكولاتها المتعالية على معيش الأفراد والنزول إلى شوارع الكتابة وميادينها الحقيقية حيث حرارةُ الإبداع تُذيب مرارة الواقع، وحيث المعنى يتشكّل جميلا في الهامش والأطراف بروح تفاؤلية مكتنزة برغبة في الانتصار على المكرَّسِ بجميع قداساته.

بل إن النقد مدعوّ إلى الانفتاح على جميع المناهج وجميع الفنون انفتاحا حُرّا وخاليا من كلّ إكراهاتها وتعاليمها. وإذ يفعل ذلك، سيكون مالكا لزمام نفسه، ولزوايا نظره لمفردات الأشياء والأحياء بكل ما فيها من رموز. ومن ثمة سيغادر عادة تقويل النصوص إلى فعلِ تأويلها، وسيتحوّل من كتابة تقويمية ومعيارية جافّة إلى كتابة إبداعية جديدة تنهض على دعامة نصوص أخرى في الشعر والرواية والقصة وغيرها وتعتمدها سبيلا إلى بناء شعريتها، وسيصير قادرا على التخليّ عن شغفه باستحضار مقولات السرد وإسقاطها على النصوص من أجل إبداعِ معنى له جديدٍ وبِكر تكون عجينتُه معاني تلك النصوص

التي يشتغل عليها. ونحن واجدون ضربا لهذا النقد في مقدّمة الأستاذ توفيق بكّار لكتاب "حدّث أبو هريرة قال" لمحمود المسعدي، حيث نقف فيها على حضور نصّ إبداعي راقٍ مكتوب في نصّ إبداعي آخر، حتى لَيشتبه علينا الأمر بين لغة بكّار ولغة المسعدي اشتباها مُحيٍّرا كأنّما النصّان قد أُبدِعا لكي لا يستغني أحدهما عن الآخر أو ليزيد أحدهما من وهج الآخر حتى يطير في فضاء التخييل بألف جناح. ومتى تحقّقت للنقد هذه الثقافة وآمن بها، أصبح جنسا مثل باقي أجناس الكتابة الأخرى، وحاز على أهلية الحضور في حقول الإنتاج الإبداعي، ولن يعود بمقدور موظَّفي المعرفة "المنهجية" بمُتعالياتها النظريّة الخوض فيه إلا مَن كان منهم مبدعا أصلا.

........................

هذا مقتطف من خاتمة كتابي: منطق اللامعقول في الرواية العربية الحديثة

(إن تعريفات اللامعقول اللغويّة والفلسفية تبلغ به محلّ صفةٍ لكلِّ هيئة أو حدث غامض مستغلق على معناه، يكتنفه الوهم من كلّ جهاته فلا يترتّب عنه غرضُه أبدًا، كما لا يستطيع العقلُ تبريرَه أو البرهنةَ عليه لأنه خارج عن ثنائية الصدق والكذب والفطرة السليمة. ولئن كان هذا اللامعقول يُصرّ على محاكاة ظواهر الواقع، فإنّه لا يُعبّر عن شيءٍ منها حقيقيّ من جهة كونه يظلّ دومًا مخالفا في تشكّله لمنطق الطبيعة كالمُعْجِزةِ والكرامةِ والتصوّف ومناخات المردّة والأطياف. لا بل إن جانبَ المتخيَّل فيه يخترق واقعَ الأشياء والكائنات ويُعيد تشكيل هيئاتها، ومن ثمة يصير باعثا على الحيرة والتردُّد والاضطراب. ولعلّ هذه الصفات تجعل منه ملتقى(carrefour) دَلاليًّا تتزاوج فيه مجموعة من المصطلحات ما يرقى به إلى مرتبة "المفهوم الجمع" الذي يتوفّر على بنية دَلالية تنهض على مقوّمات شكلية ومضمونية تتكفّل بها مجموعة من العناصر التي تدخل في تكوينه
وهو مفهومٌ تصنيفيّ يُكوّن، متى تحقَّقَ، جهازا تنظيميّا يحكم مجموعةً من المفاهيمِ ويُظَلِّلُها بظِلالِه الإيحائيّةِ، بل هو مفهومٌ أصلٌ يتوزّع إلى عدّةِ مفاهيمَ فرعيّةٍ لكلِّ واحدٍ منها خصوصيتُه في سياقِ استعمالٍ مَّا يختلِفُ بها عن دلالَةِ غيرِه في نفسِ السياقِ، ولكنّ هذه المفاهيمَ الفرعيّةَ المفردةَ تتآلف في سياق استعمالٍ لها أوسعَ لِتُفيدَ الإنْباءَ بدلالةٍ شاملةٍ هي ما نسمّيه "اللاّمعقول" في الأدب والفنّ وباقي مناشط الفكر. وحتّى نُعَلِّلَ شموليةَ مفهومِ اللامعقولِ، نُضيفُ قولَنا إنّه مفهومٌ ذو منطِقٌ يُحوِّطُ كلَّ ما يخرُجُ عن المُتعارَفِ عليه من أشراط السلوك الاجتماعيّ والأخلاقيّ والثقافيّ بين أفرادِ مجموعةٍ بشريّةٍ مَّا، ومن كيفيّةِ نظرتهم إلى حالِ الأفضيةِ المكانية والزمانيّة وهيئات الكائنات والأشياء ووظائفِها عندَهم. ذلك أنّ في اللامعقول لا تكون الأشياءُ والكائنات إلاّ مخالفةً لقوانين الفكر ومنطِقه حالاً وأفعالاً وأقوالاً، حيث تنشأ بينها علاقات غير معهودة لا تخضع لمبادئ الفطرة السليمة المألوفة، بل تجعلها هي غيرُها في نفس الوقت دون التزامٍ منها بمبدأ الهُويّة المعروف، لا، بل هي تُشوّش تلك العلاقاتِ لتؤسّسَ لمنطق فنّي جديد يحكُم حضورَها وفق نِظاميّةٍ في التشكُّلِ يُمْكن تبيُّنُها في النصوصِ، وهي نظاميةٌ قادرة على الارتقاء باللامعقول إلى صنفِ الجِنس الدَّلاليِّ. ويبدو أنّ بلاغةَ هذا المنطِقِ الفنيِّ الجديد وتحرُّرَه من بلاغةِ المنطق العقليّ هي التي أكسبت اللاّمعقول صفةَ التقنية السردية الناجعةِ التي مالَ إليها كثيرٌ من الروائيّين العرب يستعملونَها جِسْرًا للعبورِ من توصيفِ الواقعِ المرْجِعِ إلى توصيفِ الواقعِ المتخيَّلِ عبر ما تُبيح لهم من حريّة في صَوغِ شكل المعنى ومادّتِه في إطارِ ما انخرطوا فيه من موجةِ التجريبِ السرديِّ.

([1]) عبد الدائم السلامي، ناقد وأكاديمي تونسي، له مؤلفات نقدية عدة منها: شعرية الواقع في القصة القصيرة جدا (منشور بالمغرب)،منطق اللامعقول في الرواية العربية الحديثة (منشور بالمغرب أيضا)  أرق الأصابع (منشور بتونس(

##

 






اعلان