26 - 04 - 2024

النقد.. جسرٌ غائب وبناءون مهرة

 النقد.. جسرٌ غائب وبناءون مهرة

ماذا يمثل النقد الأدبي؟ ليكن السؤال أوسع قليلا: ماذا يمثل النقد؟

أبسط تعاريفه أنه: التمييز بين الجيد والرديء، ومن ثم انقسم الناس شيعًا فضربوه له قبة في عكاظ وجعلوا عليها شيوخ الفن وأساطينه، واستمد الشاعر تميزه واستحقاقه من فم الناقد – الذي لم يكن شاعرًا فاشلاً – وجعله بعضهم قصر المختارات؛ فجاءت الأصمعيات والمفضليات وأمثالها، وجعله بعضهم حاجزًا  وحصنًا فجاء عمود الشعر محاولة لتحجيم حركة التمرد – وفق رؤية الناقد حينها - فيما لجأ الناص المتمرد إلى مختارات المختارات ليثبت أنه يسير على درب أسلافه: الفن لعب.. الفن مغامرة.. الفن مخالفة.

هل اتضحت الصورة لي قليلاً؟

النقد وإن كان ينطلق من معطيات ثابتة؛ فهو أيضًا ليس حفريات مقدسة، بل هو آية الحراك الثقافي والحضاري؛ فإن افترضنا أن الشاعر مظلي أو جندي صاعقة؛ فالنقد هو سلاح المهندسين الذي يشق الألغام ليمهد للقارئ طرق السير، لكن الأمر أبعد غورًا إن صار الناص سندبادًا بحريًّا بألف ألف وجهة، وعلى الناقد أن يتبع سيره على الماء.. وأن يسبقه في كل مغامرة إلى الأعاصير التي يتوقع أن يمر بها – بناء على مغامرة سندبادية سابقة وبناء على ما في جعبة الناقد من معرفة موسوعية وعقلية منظمة والأهم آليات قوية مرنة – ولئن جاز أن الناص سندباد يبحث عن الدهشة التي لا تأتي إلا بالانتشاء الذي لا يأتي إلا بالدهشة؛ فإن الناقد هو رجل الفنار، وقصاص الأثر، ودليل الآخرين – وهم جحيم في كثير من الأحايين – لكنه عمله الذي ارتضاه ودوره الذي اختاره.

النظارات السميكة والكتب الثقيلة الصفراء والصوت العميق والملابس التقليدية.. تلك الصورة الذهنية المرسومة عن الناقد، يقابلها ذلك الرقيع الماجن الذي تحيط به الغانيات الفاتنات؛ فيما تتابع عيون الكورس صراعًا دائما بين الشاعر الوسيم والناقد الحقود ينتهي دائمًا بانتصار الفارس واندحار الناقد.. من سجننا في هذه الرؤية الكابوسية؟ وكيف نخرج منها؟

المسألة ليست بهذه البساطة والسذاجة؛ فموقع الناقد من الحياة العامة أشبه بالبوصلة، والتفكير النقدي مهارة من مهارات التفكير العليا التي ينبغي توافرها بقدر في كل فرد، وبنسبة مرتفعة في كل مجتمع..

مم يعاني النقد الآن؟

لدينا ناص ينظر له بعداء شديد، وكثيرون يهجونه سرًّا ويتحاشونه علنًا، ولدينا قارئ يحكم عليه بما لا يعرف، لدينا ناقد أسير صورته الذهنية فكأنه استمتع أو قنع، لكن آفتنا هو العشوائية التي تضرب أطراف الوطن وقلوبه.. مثلا إلى أي مكان يلجأ من أراد أن يعرف صفات الريف المصري عام 1940م؟ هل هناك مقارنة إحصائية بين عدد الكتب الصادرة في آخر خمسة أعوام؟ هل لدينا معايير محددة يتم إعلانها عند البدء في مشروع ويتم الالتزام بها في أثناء تنفيذه؟ هل تتوفر للنقاد الكتب السابقة؟ هل يمكن للناقد أن يعثر على الدراسات النقدية أو الأعمال الإبداعية التي يعمل في مجالها؟

هل كان اتباع المذاهب النقدية الغربية.. وما استتبعه من الإتيان برؤى ومصطلحات غريبة عن الجميع آفة من الآفات؟

هل ضعف التأسيس التعليمي، وإهمال التفكير النقدي باعتباره مهارة من مهارات التفكير آفة من الآفات؟

أما آفة الآفات فهي مصانع إنتاج الناقد؛ الكليات المتخصصة والشيوخ الأجلاء، أما الكليات فلم يعد غايتها تخريج باحث متخصص، وإنما إعطاؤه شهادة تخفض سنوات خدمته العسكرية، ولا تؤهله لشيء فيعمل خريج العلوم في مخبز، وخريج الطب النفسي مصححًا لغويًّا، وخريج الآداب سائسًا في موقف، وكل هذا بواسطة معتبرة أما دون واسطة فالمقهى هو الحل.

أما الشيوخ فبعد رحيل عبد القادر القط ورجاء عيد وشكري عياد فقد آثروا أن يكونوا أصنامًا في جامعاتهم تقدم لهم القرابين بدءًا من شراء الخضار والذهاب بالأبناء إلى المدارس وحتى ما لا يجوز التصريح به، وهكذا ظهر لدينا نبتٌ شيطاني يعرف طريقه وطريقته وتكاثر حتى صار هالوكًا يعرف من أين تؤكل الكتف، ويعرف الناقد الحقيقي فيقتله بدمٍ باردٍ ويحارب كل من يرى فيه بذرة قدرة وكفاءة.

هكذا إذن وجدنا أنفسنا بنقاد جواز مرورهم مختوم بحذاء الشيخ الثمانيني الذي يظن أن مكانه يمكنه من العودة لصباه، واعتلاء ما يشاء، ومن يشاء.

هكذا إذن وجدنا البناة المهرة منفيين ومهاجرين ومنبوذين ومستبعدين من المناصب التي هي في الأساس مقدرات الدولة للنهوض؛ فيما يتولاها حاملو الحقائب، أو كما قال بيان سابق: معدومو الموهبة محدودو القيمة والقامة.

هكذا إذن تجدون أني حين طلبت من أصدقائي أن يرشحوا لي نقادًا أكفاء وجدتهم يجمعون على أشخاص لا وجود لأحدهم في هيئة أو مركز أو مجلس أو مسابقة، وهكذا حينما تعجم مصر عيدانها لا تجد إلا أولئك الناحتين في الصخر، سيوهنونها وسيفتتونها.

ما يفعله النقاد الشرفاء إذن هو محاولة بناء جسر متهدم مهجور غارت معالمه بين جبال تتباعد والأصل أن تتلاحم وتتحد، وهنا  نرى أن المهمة على صعوبتها تنتخب رجالها الأشداء، وتفزرهم أولا بأول، وتسقط من أراد السقوط، وتحفظ من حفظها.

في كتابه ميتافيزيقا الشعر يقول وليد منير إن العاهرات يحاكين الفتاة غير المجربة الساذجة لأنهن يعرفن أنها هي النموذج الأصيل، وهذا ما يفعله بائعو النقد فهم يقدمن ذهبًا مغشوشًا يطؤه العارف ويكتشفه الجاهل بخبرة التعامل.. وما يبقى منه ليس لهؤلاء في شيء.. إذن فليهنأ أولئك بالوهم الكاذب وليقنع فرساننا بما لهم من شرف أصيل وموهبة مكينة ومكان محفوظ في مدينة المستقبل.

من هنا فثقتي بالتجربة التي تدخلنا فيها اختيارات الحياة تجعلني مطمئنًا إلى عبور الشرفاء مكللين بالمجد، وثقتي بأن المخادع لن ينطق إلا بما يظن أن الناس ستصدقه، والناس تصدق الحق وتؤمن به، ويكفي المنافق عارًّا أنه مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها.

هذا الخطر إذن وقتي زائل، خطر لأن هذه الحشرات تشبه الأسماك الميتة فهي تملأ سطح الماء، ووقتي لأنها تصنع أزمة مؤقتة، وزائلة لأن الماء يجري.. منحنيًا للبناءين المهرة وهم يشيدون جسرًا، ويضعون علاماتهم، ويبنون فناراتهم.

هذا الملف عن النقد والنقاد، آثرت فيه التوازن؛ فتجد من شيوخ النقد الذين يجب أن يتسلموا الراية من شيوخ النفط والنفاق، وتجد فيه فرسانًا مختارين، وتجد فيه من هم على مفترق الطرق.

بحضور محمد فكري الجزار وسامي سليمان يحضر حسين حمودة ونظراؤه، وبحضور هويدا صالح يختفي مجايلوها ممن اختاروا ما تعف عنه الهوام، وبحضور أيمن بكر وممدوح النابي وسيد ضيف الله يحضر الضاربون في أرض الله الواسعة فما مقامهم في الكويت وتركيا وأمريكا إلا علامة على فسادٍ استشرى حتى ضيق على كفاءاته فضاقت عليهم الأرض بما رحبت.. وما حضور أحمد الصغير ورضا عطية إلا حضور الاجتهاد والبحث عن فرصة كريمة.

لا يفوتك قارئي حضور الأكاديمي عبد الدائم السلامي التونسي، وهو أول عربي يشارك في ملفاتنا: "أدب المصريين" فهو ليس ضيفًا وإنما ابن للتجربة ذاتها وللمعاناة عينها، ولئن كان لفظ المصري أطلق على كل من مر بمصر أو جعلها محلا مختارًا، ولئن وسعت مصر ابن بطوطة وابن خلدون حتى صار صاحب المقدمة قاضي قضاتها، وأوصى بأن يدفن في مقابر صدقاتها؛ فإنه أولى بها الآن أن ترحب بحفيدهما السلامي.

ليس عجيبًا أن يكون هؤلاء جميعًا منفيين؛ اختيارًا أو إجبارًا، مع اختلاف مستوى النفي؛ غربة عن أرض مصر، إبعاد عن التعيين، العمل في جامعات خاصة، الإبعاد عن العاصمة.. الإبعاد والنفي أحد الجوامع المشتركة بين أولئك البنائيين..

هل أتتكم الإجابة: مهمة النقد هي تصحيح الأوضاع، مساعدة النهر في الجريان، الحرص على كل بذرة إبداع، بناء الجسور، الكشف عن زيف الزائف.. الدفاع عن كل ما هو إنساني..

لا أظن أنني أجبت بل ربما أشرت.. لكن الإجابة كاملة تجدونها في شهاداتهم.

##






اعلان