18 - 04 - 2024

الظل الأخضر

الظل الأخضر

 وقتها كنت بنت الثلاث سنوات التي لم تتعلم الكلام بعد ؛ لكنها كانت ترصد بعين الروح كل ما يدور حولها ؛ فتحت الباب بعنف وأيقظته ودموعي تنساب – أخي الكبير الذي يكبرني بخمس سنوات - :" اصح اللاجل إلي الناس بتحبه مات " ففتح عينيه في حال من التشكك والريبة ففاجأته "اللاجل إلي بيركب التياله " كان لساني لم يتعود نطق جمال عبد الناصر ،ولكن تعودت كاميرا الروح التقاط كل صورة كانت له ، هبَ أخي مرة واحدة  منتصب الهامة غير مصدق, مهرولاً إلي مكان التليفزيون ليتأكد من صحة الخبر ، فعلا كان التليفزيون يعلن النبأ وصوراً لجمال عبد الناصر وهو يهبط من علي سلم الطائرة عائدا من آخر رحلة له لمعشوقته مصر، والجميع تختلط في حلوقهم المرارة بالغصة بالصراخ والعويل : " يا فرحتك يا إسرائيل " . كان الحب فطرياَ وبريئاً ، ولذلك كان حصى الأرض يحب جمال عبد الناصر . بعدها يخرج هذا المشهد من معبد القلب بنقوش الحب المصورة علي جدرانه كلما ذكر اسم جمال عبد الناصر . فهل رحل الحلم الناصري ؟

لم يرحل ابداً هذا الحلم بل يخرج كعنقاء الخلاص ننضوي تحت جناحيها الأخضرين المتلألئين نستظل بدفئهما كلما ضاق المشهد ، ظل الحلم في الوجدان الجمعي ، والدليل ما طالبنا به في ميدان التحرير من عدالة اجتماعية . فما الذي فعله جمال عبد الناصر؟ حقق العدالة الاجتماعية علي أرض الواقع بحزم وصدق  ، فجعل لكل فلاح طينا تلمسه يداه المتشققتان فيمر طينه (أرضه الملك) بين شقوق يده المتعرجة من السخرة نهراً يداوي شقوق الروح . كان يحلم للفقراء ببيوت وحدائق ورواتب شهرية تحترم آدميتهم فينطلقون بعدما حققوا مطلب الجسد إلي مطلب الروح من ترقية للذوق بأغنية ذات معني ، أو فيلم هادف ، أو مسرح صاحب رسالة .

 فما الذي حدث بعد كل هذه السنوات من التشويه والإقصاء للمشهد الناصري ؟ حُمِلت صورة جمال عبد الناصر لتعلو فوق الهامات في ميدان التحرير ، وبكينا مع أغاني الستينيات وتحمسنا ، كنا حلما يتجسد يمشي علي قدمين ، يفك قيود اللحظة ، وينطلق لسماء أبهي  ، سماء جمال عبد الناصر ، كنا ساعتها نرفع شعار( كرامة حرية عدالة اجتماعية ) . وهل كان المشروع الناصري إلا تلك الشعارات الثلاث مجتمعة ؟

 كان يكفي أيام جمال عبد الناصر أن تقول أنا مصري لتُصَافَح بنظرات الإجلال والتقدير من بني أرومتك العرب ، بل من العالم كله ومع إهدار كرامتنا لسنوات وسنوات  أردنا استرجاع اللحظة في التحرير فكان الشعار " ارفع راسك فوق إنت مصري " . لنعود عملة من الماس نادرة الوجود في أقطار العالم .

ناصر كان مشروعاً حضارياً كاملاً . فالحضارة كما صورها ول ديورانت نظام اجتماعي يعين الانسان علي الزيادة من انتاجه الثقافي ، وهي تكاتف أربعة عناصر مجتمعة  ، موارد اقتصادية ، نظم سياسية ، تقاليد خلقية ، ومتابعة العلوم والفنون . ألم نكن كذلك أيام ناصر فقد شُيدت مصانع ، وأُنيرت قري ، وبُني السد العالي ، وأُممت قناة السويس ، وعادت الحقوق إلي أصحابها ، وارتفع مستوي معيشة الفرد فتابعنا الفنون والعلوم ، وحتي لا يدخلنا أحد في مناورات الحروب  ؛ فقد خضنا الحروب بشرف وكرامة لا نخاف أحداً بل كنا شوكة في حلوق الأعداء ، وعلي الرغم من كل تلك المعوقات الخارجية تحررت أنفسنا واندفعنا للابداع والانشاء .   ولا أنسي التعليم الذي أسس لعظماء فكل في  مجاله ومكانه من أمثال أحمد زويل ، ويحيي المشد ونبوية موسي وغيرهم كثير من رموز السياسة والشعر والنثر والصحافة .

  فتحية للرجل ذي الظل الأخضر في يوم الثورة ، وقبلة علي جبين روحه الحية  إذ كان الرجل الذي وافق قوله فعله فاستحق أن يحمل علي الأعناق حياً وميتاً . ورحم الله ناصر ومحمود درويش صاحبي الظل الأخضر، حين يقول محمود عن ناصر:

         نرى صوتك الآن ملء الحناجر / زوابع /تلو / زوابع / نرى صدرك الآن متراس ثائر / ولافتة للشوارع / نراك / نراك / نراك

ففوق ضريحك ينبت قمح جديد / وينزل ماء جديد / وأنت ترانا / نسير / نسير / نسير

مقالات اخرى للكاتب

الظل الأخضر





اعلان