31 - 12 - 2025

داود عبد السيد يرحل من "أرض الخوف".. كيف نعت النخبة "شاعر السينما"

داود عبد السيد يرحل من

- حزن عميق يخيم على من يعرفون قدره ومطالب بإطلاق اسمه على ميدان بالقاهرة

رحل السبت الماضي المخرج الكبير داوود عبد السيد، أحد أبرز  صناع  السينما في جيله، عن عمر ناهز 79 عامًا، بعد صراع مع المرض.

يمثل الراحل داوود عبد السيد جزءا مهما من تاريخ الفن السينمائي في مصر والعالم العربي في مجالات الإخراج وكتابة السيناريو، حيث تتميز أفلامه بالقرب من شخصيات المجتمع العادية، وترتبط موضوعاته بهموم الناس وقضاياهم مثل الظلم الاجتماعي أو البيروقراطية.

وكسر رحيله الحائط الوهمي بين عنصري الأمه حيث شاركت قطاعات كبيرة من النخبة في تشييع جنازته الأحد بكنيسة مار مرقس بمصر الجديدة، وكذا في عزاء اليوم التالي بنفس الكنيسة..

ولد الراحل في نوفمبر عام 1946، وتخرج في المعهد العالي للسينما عام 1967، وبدأ حياته المهنية بالعمل كمساعد مخرج في أفلام، من بينها "الأرض" ليوسف شاهين، و"الرجل الذي فقد ظله" لكمال الشيخ.وقال في أحد الحوارات الصحفية إن مهنة مساعد مخرج شاقة جدا وتتطلب تركيزا شديدا.

بدأ داوود عبد السيد مسيرته بأفلام تسجيلية، بينها "وصية رجل حكيم في شؤون القرية والتعليم" عام 1976، والعمل في الحقل عام 1979، وعن الناس والأنبياء والفنانين" عام 1980. وأخرج أول أفلامه السينمائية "الصعاليك" عام 1985، بطولة نور الشريف ومحمود عبد العزيز ويسرا، ويعرض قصة صعود إثنين من اللصوص إلى أن يصبحا من نجوم المجتمع. ثم توالت أعماله السينمائية خلال الثمانينيات والتسعينيات والتي كتب السيناريو لأغلبها، ومن أبرزها "البحث عن سيد مرزوق 1991، الكيت كات 1991، سارق الفرح 1993، أرض الأحلام (1993) أرض الخوف 2000، مواطن ومخبر وحرامي 2001، رسائل البحر 2010، وقدرات غير عادية 2015.

وخيم الحزن على مواقع التواصل الاجتماعي كما لم يحدث في وفاة مخرج سينمائي من قبل:

نعاه مهرجان القاهرة السينمائي الدولي بالقول إنه رحل بعد مسيرة استثنائية ترك خلالها بصمات خالدة في تاريخ الفن السابع، وقدّم أعمالًا شكلت وجدان أجيال من محبي السينما، وقال الفنان حسين فهمي، رئيس المهرجان:“برحيل داود عبد السيد تفقد السينما المصرية أحد أهم مبدعيها وأكثرهم صدقًا وخصوصية. كان صاحب رؤية فلسفية وإنسانية نادرة، وترك لنا أعمالًا ستبقى مرجعًا في الجمال والوعي والمعنى. لقد ساهم داود عبد السيد في ترسيخ مفهوم السينما كفن للتأمل والبحث في الإنسان والمجتمع، وسنظل نحتفي بإرثه ونتعلم من بصيرته السينمائية العميقة.”

الأديب عمار علي حسن قال: برحيل داود عبد السيد تكون صفحة مهمة من تاريخ السينما المصرية قد طويت. وأضاف: قابلت الرجل قبل سنوات قليلة في لقاء سياسي، وسألته عن حاله مع السينما، فوجدته حزينًا قانطًا دون حنق أو حقد لأنه لا يجد إنتاجًا لسيناريوهات تحمس لها، وبدا لي وقتها أن مستقبله قد بات خلفه، مع تغير اتجاهات الإنتاج والتوزيع. كان داود عبد السيد لا يقبل أي سيناريو عابر، ولا يخرج أي فيلم لمجرد الوجود على الساحة، أو كسب المال، إنما كان يُحسن الاختيار، ويعمل باقتدار، حسبما رأينا في فيلمه الفارق "الكيت كات".وقد خسرنا برحيله واحدًا من أهم المخرجين في تاريخ السينما المصرية المديد. 

أما د. نبيل عبد الفتاح الباحث الشهير بمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية فقال إنه المخرج الكبير المكانة والمقام الذي اثري السينما ،وحياتنا بالجمال والعمق والمعني، دواد الغالي كان من ابرز شخصيات مصر الأخري المستقلة المؤمنة برسالتها ودورها ، رمزًا للحرية والعقل الحر المستقل ، واحد بناة الجمال والتفرد".

فيما ودعه خالد البلشي نقيب الصحفيين بالقول: وداعًا فيلسوف السينما، الكلمات تعجز عن التعبير عن حجم الفقد برحيلك

وأكد المخرج الكبير يسري نصر الله أن "خياله كان أوسع من هذا العالم. وأفلامه احتضنت العالم.. أحبت أفلامه الناس فأحبه الناس وأحبوا خياله. مع السلامة يا داود".

الشركة المتحدة للخدمات الإعلامية لم تغب عن مشاعر الفقد فقالت إنه: أحد أهم رموز السينما المصرية والعربية، وصاحب التجربة الفنية المتفردة التي أثرت الوجدان وطرحت أسئلة الإنسان والمجتمع بصدق وعمق. لقد كان الراحل نموذجا نادرا للمبدع المثقف، الذي قدم أعمالا خالدة ناقشت قضايا الإنسان والمجتمع بجرأة وصدق وعمق، وأسهمت في ترسيخ مكانة السينما المصرية كأداة للتنوير. وتؤكد الشركة أن إرثه الفني والفكري سيظل حاضرًا، وأن أعماله ستبقى شاهدة على موهبة استثنائية ورؤية لا تموت. وكذلك فعلت نقابة المهن السينيمائية. والمرشح الأسبق لرئاسة الجمهورية حمدين صباحي.

السينيمائية الكويتية فرح الهاشم قالت إن خبر رحيل داود عبد السيّد كان "كصاعقةٍ على قلبي. استيقظتُ من قيلولتي، وغرفتي غارقة في العتمة، والشمس تميل إلى الغروب خلف النافذة، فإذا بي أقرأ خبر وفاته… وإذا بالدموع تنساب، وأنا أكتب الآن ودموعي تنهمر. لم ألتقِ به يومًا، لكنني عرفته منذ طفولتي. كنتُ في سينما السيارات في الكويت في تسعينيات القرن الماضي، أجلس داخل السيارة مأخوذةً بسحر الشاشة، عندما شاهدت أوّل أفلامه: «أرض الأحلام». كانت فاتن حمامة تبحث عن جواز سفرها، ويسكنها القلق، فانتقل القلق إليّ طفلةً صغيرة.ظلّ ذلك التوتّر يعيش في ذاكرتي، وتحوّل إلى ظلّ يرافق أسفاري كلّها:" من الكويت إلى أمريكا، ومن بيروت إلى فرنسا، ثم عودتي إلى الكويت الحوار الداخلي نفسه، التردّد نفسه، والأسئلة ذاتها قبل كل رحلة. وأحبّ مشهدٍ في الفيلم ذاك الذي تجلس فيه فاتن حمامة مع يحيى الفخراني على الرصيف، يضحكان ببساطة، وتفوتها رحلة السفر… فتظلّ في القاهرة. وكنت أقول في داخلي: من ذا الذي يترك القاهرة أصلًا؟ ربّما لهذا السبب أحببت القاهرة، وربّما لهذا كبرتُ على حبّها.أفلام كهذه ربّت قلوبنا، وزرعت فينا مدنًا كاملة تنبض بالحياة. رحم الله داود عبد السيّد صانع الأحلام الهادئة، الذي كان يضع الكاميرا على كتف الروح، ثم يتركنا نكمل الطريق وحدنا. وأنا أكتب الآن، أبكي… ليس حزنًا عليه فقط، بل على جزءٍ من طفولتي رحل معه

وقال الدكتور محمد ابو الغار أكثر رجال السياسة المصرية احتراما: لم يكن فقط فنانا كبيرا بل كان مثقفا عظيما . كان داوود يؤمن بمصر العظيمة الحرة ويؤمن بحقوق المواطن البسيط ، لم يتنازل أبدا عن مبادئه من أجل سلطة أو مال أو شهرة بل كان يبدع ما يراه فنا حقيقيا، تأبى السنة الكبيسة والحزينة أن ترحل قبل أن تأخذ معها قطعة من قلب الوطن.

وقال العقيد أحمد شعبان المسؤول الإعلامي السابق: رحل صانع الأسئلة، وواهب الإبداع السينمائي الفلسفي لجيلنا. رحل مبدع "الكيت كات"، فترك لنا ثراء الشيخ حسني بصيرةً لا تُرى، وتركنا في "أرض الخوف" نواجه ذواتنا بلا يقين، نبحث عن الحقيقة كما أرادها دائمًا… سؤالًا مفتوحًا لا إجابة نهائية له. وإن غاب الجسد، فالأثر باقٍ، والحيرة الجميلة لا تموت

أما خالد عاشور فقال: من قابل المخرج العظيم الأستاذ داود عبد السيد يعرف مدى خسارتنا فيه.. خسارة كبيرة يدركها عشاق سينما داود عبد السيد وعشاق السينما عموماً من المحيط الى الخليج.. فهو واحد من عظماء السينما المصرية والعربية ومن انبل واجمل الشخصيات التي قابلتها في حياتي. أتمنى من العزيزة أ.د. غادة جبارة رئيس أكاديمية الفنون أن يسمى احدى قاعات الأكاديمية أو المعهد العالي للسينما بأسمه تخليداً لذكراه.. وان يسمى أحد ميادين مصر أو الشارع الذي عاش فيه باسمه تخليداً لذكراه..  رجل مثله هذا اقل تكريم لمكانته التي لا تقدر بشيء ولإنسان ومخرج عظيم ظل طيلة حياته مخلصاً للسينما وآثر فينا بفنه وفلسفته.. وسيظل يؤثر في الأجيال القادمة الى الأبد. يوم حزين في تاريخ مصر

وقالت ابتهال عبدالوهاب: لم يكن داود عبد السيد مخرجا بالمعنى التقني للكلمة، بل كان فيلسوفا يكتب أطروحاته بالكاميرا، ويصوغ أفكاره بلغة الصورة والظل، ويترك للشخصيات أن تتكلم نيابة عن الإنسان وهو يتعثر في أسئلته الكبرى: الحرية، الخوف، السلطة، المعنى، والوهم. في أفلامه لم يكن البطل فردا، بل حالة وجودية إنسان محاصر بين ما هو كائن وما يجب أن يكون. من البحث عن سيد مرزوق إلى أرض الخوف، ومن الكيت كات إلى الصعاليك، لم نكن نشاهد حكايات بقدر ما كنا ندخل متاهات الوعي المصري: دولة تراقب، ومجتمع يدجن، وفرد يتعلم كيف يعيش وهو خائف، أو كيف يخون نفسه كي ينجو، كان داود عبد السيد يضع إصبعه على الجرح، لا ليصرخ، بل ليجعلنا نرى الدم بأعيننا، ونفهم أن الصمت أحيانا أكثر فتكا من القمع. ينتمي داود عبد السيد إلى جيلٍ استثنائي حمل الراية الثقيلة بعد الكبار: صلاح أبو سيف، توفيق صالح، يوسف شاهين. جيل محمد خان، وعاطف الطيب، وخيري بشارة… جيل لم يتعامل مع السينما كصناعة ترفيه، بل كمسؤولية أخلاقية ومعرفية، كفعل مقاومة ناعم، وكقوة مصر الحقيقية التي لا تُقاس بعدد الدبابات، بل بعدد العقول الحرة. ومأساة مصركما هي دائما  ليست في رحيل الكبار بل في ندرتهم، حصتنا من هذه العقول أقل بكثير مما تستحقه بلاد بتاريخها وعدد سكانها وثراء تجربتها. نصف قرن مضى، ولم يظهر العدد الكافي لتعويض من يرحلون. كأن الأرض تنجب عباقرتها على استحياء، ثم تتركهم وحدهم في مواجهة الإهمال، والرقابة، وسوء الفهم. داود عبد السيد لم يكن محبوبا لأنه مريح، بل لأنه صادق. والصدق، في بلاد اعتادت المواربة،  باهظ الثمن، ستبقى أفلامك رسائل ليست كلمات تقرأ، بل أرواح تعاش، وأسئلة تطرق العقول في زمن يكره الأسئلة. ستبقى أرض الخوف خريطة لوجداننا المرتبك، وسيبقى الكيت كات شهادة على عبقرية الضحك في مواجهة العجز، وسيبقى بحثك عن سيد مرزوق بحثنا نحن عن معنى لم نفقده تماما، لكننا نخشى الاعتراف به. وداعا لفيلسوف الصورة، وناسك الحرية، ومخرج لم يجامل السلطة ولا ذائقة السوق.ستبقي مصر رغم كل شيء، مدينة لك بهذا النور الذي لن ينطفئ ابدا

ونعاه المخرج الكبير خالد يوسف بالقول: سيظل ابداعه ملهما للكثيرين وستبقي شخوص افلامه حية تنبض بالحياة عابرة للزمن ولا تموت اما مواقفه الثابتة الشجاعة ستظل مقياسا نعرف منها الموقف الصحيح وكلماته ستبقي نورا واضاءة دائمة علي الطريق.
------------------------------------
تقرير- هيباتيا موسى

داود عبد السيد - العدد 343 من صحيفة المشهد - ص 1