في زمنٍ لم يعُد فيه الواقع كيانًا صلبًا، ولا الافتراضي مجرد مساحة موازية، يعيد المركز القومي للترجمة، برئاسة الدكتورة رشا صالح، التذكير بأحد أهم إصداراته الفكرية اللافتة، كتاب "ما بعد الافتراضي.. استكشاف اجتماعي للثقافة المعلوماتية"، الذي يفتح أفقًا فلسفيًا وثقافيًا لفهم التحولات العميقة التي أحدثتها الثقافة المعلوماتية في وعينا بالواقع وحدوده.
الكتاب، من تأليف المفكر الفرنسي فيليب ريجو، وترجمة وتقديم عزت عامر، لا ينشغل بوصف أجناس مستخدمي شبكة الإنترنت، ولا يذهب إلى نقدٍ فلسفي مباشر لجهاز الاتصال المعاصر، بل ينظر إلى الثقافة المعلوماتية باعتبارها ظاهرة متعددة الأوجه، تتصل بمستويات واقعٍ متباينة ومتلازمة في آنٍ واحد.
دون اختزالٍ أو تصنيفٍ جاهز، يتعامل كتاب "ما بعد الافتراضي" مع الثقافة التقنية المعاصرة، مثل تلك التي تنظمها الثقافة المعلوماتية حتى خارج المجال التقني على وجه الحصر – من إعلانات التجهيز المعلوماتي لأدب الخيال العلمي، مرورًا بالتعليقات الصحافية – بوصفها مجالًا ثريًا يتغذّى من منابع متنوعة، ويُنتج شبكة كثيفة من الممارسات والعروض والتمثيلات.
ومن خلال مدخلٍ يربط بين النظام الوثائقي ونظام التحويل إلى ما يمكن تصوّره، يفتح المؤلف بابًا لتحليل اجتماعي أنثروبولوجي لهذا الحقل الثقافي المتعرّج والمستحدث، الذي يرى فيه البعض علامةً على تحوّل وجودي عميق يطال الجنس البشري ذاته، لا مجرد تحوّل في أدوات الاتصال أو وسائط المعرفة.
ويأتي هذا الإصدار ضمن كتب المركز التي لا تكتفي بملاحقة الظواهر التقنية، بل تسعى إلى مساءلتها فكريًا وفلسفيًا، وطرح أسئلة كبرى حول الإنسان، والإدراك، وحدود الواقع في عصر تتداخل فيه الحقيقة بالتمثيل، والواقع بالتصوّر، والوجود بالافتراض.






