26 - 12 - 2025

صراع السيادة الرقمية: غداً.. من سيرسم مصير العالم؟

صراع السيادة الرقمية: غداً.. من سيرسم مصير العالم؟

في حقبةٍ تاريخيةٍ فريدة، حيث لم تعد حدود الدول ولا ثرواتها التقليدية هي المقياس الأوحد للهيمنة، تشهد الإنسانية تحولاً جوهرياً في مفهوم "القوة" ذاتها، فلقد اندلعت حرب باردة جديدة، لكن ساحتها ليست الفضاء الخارجي بل عالم الخوارزميات والبيانات، وذخيرتها ليست صواريخ باليستية بل نماذج الذكاء الاصطناعي الخارقة، هذا السباق التكنولوجي المُحتدم لا يكتفي بإعادة ترتيب خريطة النفوذ العالمي؛ بل يعيدكتابة قواعد اللعبة برمتها، محولاً أسس الحكم من الجغرافيا والسياسة إلى السيليكون والبرمجيات، وأمام هذه الثورة الضاربة، يتشقق سؤال "غداً، مَنْ سيحكم العالم؟" ليخرج من قفص النقاشات الأكاديمية النظرية، ويتجسد كمعادلة وجودية معقدة تُصارع فيها الدول القومية على بقائها، وتتصاعد فيها قوة الشركات التكنولوجية العابرة للحدود، وتعلو فيها أصوات كيانات جديدة: الخوارزميات ذاتية التطور، ونحن لا نتحدث عن مستقبل بعيد، بل عن حاضر يُشكَّل أمام أعيننا، حيث تُقاس السيادة بقدرات الحوسبة السحابية  (Cloud Computing)، وتُفرض الإرادة عبر منصات رقمية، وتُصنع القرارات المصيرية في مختبرات لا تعرف الولاء إلا للابتكار، وهذه هي الأرضية الجيوفلسفية الجديدة التي يُولد عليها عصرٌ، قد يكون للإنسان فيه شريكٌ غير بشري في حُكم عالمه.

ومن أقدم حضارات المصريين القدماء، وبلاد ما بين النهرين، حيث كانت السلطة تُستمد من السماء وتُمارس في المعابد، إلى وادي السيليكون اليوم، حيث تُصنع الهيمنة في مراكز البيانات وتُفرض عبر الخوارزميات، تمثل رحلة الحكم عبر العصور تحولاً جوهرياً في طبيعة القوة ذاتها، ويقدم لنا المفكر الاستراتيجي الفرنسي جاك أتالي (Jacques Attali) في مؤلفه الاستشرافي "غداً، من سيحكم العالم؟" خريطة طريق تاريخية ثاقبة لهذه الرحلة، ويرى أتالي أن مسار الحضارة البشرية قد انتقل عبر ثلاثة أنظمة كبرى: بدأت بالنظام "الديني" الذي هيمن على وعي المجتمعات القديمة، ثم تحول إلى النظام "الإمبراطوري" الذي أسس لدول مركزية توسعية، قبل أن يستقر في عصرنا الحالي على "النظام التجاري" أو الرأسمالي، الذي يحكم العالم من خلال أدوات السوق والتمويل.

والأكثر إثارة في تحليل أتالي هو تتبعه لديناميكية مركز القوة العالمي، والتي لا تثبت في مكان، فلقد انتقلت "النواة الرأسمالية" المهيمنة عبر تسع مدن متعاقبة، كشعلة تضيء عصرها ثم تنطفئ لتنطلق إلى غيرها، وانطلقت الشعلة من مدينة بروج في القرن الثالث عشر، ثم انتقلت إلى فينيسيا التجارية، ومنها إلى أنتويرب وجنوة، وفي العصر الحديث، انتقلت الهيمنة إلى أمستردام ثم لندن، قبل أن تعبر المحيط الأطلسي إلى بوسطن ونيويورك، لتستقر - مؤقتاً - في لوس أنجلوس بسبب ريادة الثورة المعلوماتية، والإنترنت، واقتصاد المنصات، والتكنولوجيا المناخية، والعلوم الحيوية، ثم تعود مرة أخرى لنيويورك التي تهيمن على صناعة التمويل العالمية، وكل مدينة من هذه كانت في عصرها مركز الكون المالي والتقني، قبل أن تفقد بريقها لصالح أخرى، وهذا التاريخ المتقلب يطرح سؤالاً مصيرياً: إذا كان نمط الانتقال هذا مستمراً، فأين ستكون المحطة العاشرة؟ وهل ستكون مدينة تقليدية، أم سيكون "وادي السيليكون" مجرد رمز لقوة جديدة غير متمركزة، قوة الخوارزميات والذكاء الاصطناعي التي لا تعرف حدوداً جغرافية؟

ويضع جاك أتالي نبوءةً دقيقةً على مقياس زمني للتاريخ، فيتنبأ بسقوط الإمبراطورية الأمريكية كنواة مهيمنة قبل حلول عام 2035، وهو التاريخ الذي يراه نهاية "الشكل التاسع للرأسمالية"، ووفقاً لهذه الرؤية، سيتحطم نظام القطب الواحد ليفسح المجال أمام عالم متعدد الأقطاب بشكل غير مسبوق، تتصارع وتساهم فيه تسع قوى كبرى ممتدة عبر القارات، ربما تضم كيانات مثل الصين والهند والاتحاد الأوروبي. ولكن هذه الخريطة الجيوبوليتيكية "التقليدية" التي يرسمها أتالي تواجه اليوم تحدياً وجودياً من قوة لم تكن حساباتها في الزمن الذي كتب فيه كتابه عام 2011، فالذكاء الاصطناعي لا يضيف مجرد متغيراًجديداً للمعادلة؛ إنه يعيد تعريف ساحة المعركة ذاتها، فلقد انفجرت دائرة الصراع على السلطة لتتجاوز حدود التنافس بين الدول القومية، فالسلطة لم تعد تُختَزَل في سيادة على الأرض، بل تحولت إلى سيادة على الفضاءات الرقمية والبيانات والخوارزميات الحاكمة، ولم يعد السؤال هو أي دولة ستتربع على عرش العالم، بل من سيسيطر على البنية التحتية التكنولوجية التي ستدير العالم: منصات الذكاء الاصطناعي الخارقة، أم شبكات التواصل التي تشكل الوعي، أم عملة المستقبل الرقمية؟ 

لقد دخل اللاعبون الجدد - الشركات التكنولوجية العابرة للقوميات، والخوارزميات شبه المستقلة - إلى حلبة الصراع، حاملين معهم نمطاً جديداً من "الحُكم" لا يعترف بالحدود، ولابالسيادة التقليدية، مما يجعل تنبؤ أتالي نقطة بداية مثيرة، لكنها لم تعد النهاية، في رحلة الإجابة عن سؤال: من سيحكم العالم غداً؟

وبإمعان النظر في مفهوم الذكاء الاصطناعي كمعادلة جديدة للسيادة والقوة، نجد أن مفهوم القوة شهد انزياحاً جوهرياً يُماثل في عمقه التحول من القارة إلى المحيط في عصور الاستكشاف، فالمعايير التقليدية التي ظلت قروناً تُقاس بها عظمة الأمم - اتساع الرقعة الجغرافية، وكثرة عدد السكان، وقوة الجيوش التقليدية - لم تعد العوامل الحاسمة الوحيدة، بل باتت في كثير من الأحيان عبئاً إذا لم تُرافقها قدرة تكنولوجية رشيقة وهائلة، فلقد انتقلت بوصلة النفوذ من السيطرة على الأرض والموارد إلى الهيمنة على الفضاءات الرقمية، وتدفقات البيانات، والخوارزميات الحاكمة.

وفي قلب هذا التحول، يبرز الذكاء الاصطناعي ليس كمجرد أداة تقنية متطورة، بل كلاعب جيوبوليتيكي رئيسي وإطار جديد للتنافس الدولي، بل وحتى "سلاح" المستقبل الأكثر فعالية للسيطرة على الأسواق وتعزيز النفوذ، وأصبحت القدرة على تطوير هذه التقنيات واستخدامها وحمايتها محدداً رئيسياً لمكانة الدولة في الهرمية العالمية، حيث تتنافس القوى العظمى على بناء "عوالم تكنولوجية" تفرض من خلالها قواعد اللعبة الدولية الجديدة.

وقد أدرك القادة الاستراتيجيون هذه الحقيقة المُحدِثة لعهد جديد، فقبل سنوات، لخص الرئيس الروسي فلاديمير بوتين هذه الرؤية في خطابه بتاريخ 1 سبتمبر 2017، بمناسبة بدء العام الدراسي بعبارة أصبحت محورية في فهم الصراع المستقبلي: "الذكاء الاصطناعي هو المستقبل ليس فقط بالنسبة لروسيا بل لكل الإنسانية.. ومن سيصبح قائداً في هذا المجال سيصبح الحاكم للعالم"، وهذه العبارة ليست مجرد تنبؤ، بل هي اعتراف بأن ساحة المعركة قد انتقلت بشكل حاسم، وأن القوة التكنولوجية لم تعد مجرد أداة لدعم القوة التقليدية، بل هي مصدرها الأساسي وأداة إعادة تشكيلها.

وفي قلب السباق التكنولوجي المصيري، يقف عملاقان يحددان معالم المرحلة الحالية: الولايات المتحدة التي مازالت تحتل موقع الصدارة، والصين التي تُعد المنافس الأشرس والأسرع في اللحاق بالركب، وتُترجم هذه الهيمنة إلى أرقام مادية مذهلة؛ فاليوم تستضيف الولايات المتحدة وحدها 39% من إجمالي طاقة مراكز البيانات العالمية، بينما تستضيف الصين 22%، مما يعني أن هذين البلدين يسيطران معاً على أكثر من 60% من البنية التحتية الرقمية للعالم، لكن المعركة الحقيقية تتجاوز مراكز البيانات إلى فلسفات استراتيجية متعارضة تماماً تعكس الرؤى الجيوبوليتيكية لكل منهما:

الولايات المتحدة: إستراتيجية "قاعدة - قمة" المرنة، والتي تعتمد واشنطن فيها نموذجاً يركز على دفع القطاع الخاص والابتكار من الأسفل، واستراتيجيتها تهدف إلى بناء قاعدة صلبة عبر تسهيل التراخيص للبنية التحتية المتقدمة (مثل شبكات الجيل الخامس)، وضمان الأمن القومي التكنولوجي من خلال تعزيز التصنيع المحلي للشرائح الإلكترونية (كما في قانون الرقائق والعلوم)، والاستثمار طويل الأجل في رأس المال البشري لجذب العقول والاحتفاظ بها، وقوتها تكمن في نظامها الإيكولوجي من الشركات العملاقة (مثل جوجل ( Google)، ومايكروسوفت (Microsoft)، وإنفيديا (Nvidia)  والجامعات الرائدة.

* الصين: إستراتيجية "قمة - قاعدة" المركزية، والتي تتبع بكين فيها نهجاً توجيهاً مركزياً من القمة، حيث تندرج جميع الجهود تحت خطة وطنية شاملة مدعومة بتمويل حكومي هائل، وأبرز تجليات هذه الإستراتيجية هو المشروع الضخم "البيانات الشرقية والحوسبة الغربية"، والذي يهدف إلى إعادة توزيع الثروة والطاقة التكنولوجية داخلياً عبر نقل عمليات معالجة البيانات الهائلة من المناطق الشرقية المكتظة بالسكان (مثل شنغهاي وبكين) إلى المناطق الغربية الأغنى بالموارد (مثل الطاقة الشمسية وطاقة الرياح)، بمعنى أن المشروع يحوِّل نموذج نقل البيانات لمسافة طويلة إلى نموذج معالجة البيانات محلياً أو إقليمياً، مما يزيد الكفاءة ويقلل التكاليف والمشاكل التقنية وهذا لا يحل مشكلة النطاق الترددي المسئول عن نقل البيانات فحسب، بل يعزز الأمن ويخدم أهداف التنمية الإقليمية.

وهذا التباين في النهج يخلق سيناريوهين محتملين للمستقبل: إما نظام عالمي منقسم إلى "كُتَل تكنولوجية" منفصلة بمعايير وسلاسل توريد خاصة بكل معسكر، أو سباق تسلح ابتكاري يدفع بالبشرية إلى آفاق جديدة، بينما يظل السؤال معلقاً: من سيسود في النهاية، نموذج الابتكار الحر أم نموذج التخطيط المركزي؟

وبينما تبلغ حمى الاستثمار في الذكاء الاصطناعي ذروتها، يلوح في الأفق سؤال مصيري: هل نحن على أعتاب طفرة اقتصادية تاريخية، أم أننا نعيش في قلب أعظم فقاعة تكنولوجية منذ انهيار الدوت كوم؟ فتشير الأرقام إلى مشهد مذهل؛ فمن المتوقع أن يصل الإنفاق العالمي على هذه التقنيات إلى نصف تريليون دولار في عام 2026، ولا يمكن رؤية هذه الطفرة من التقارير المالية فحسب، بل من الفضاء الخارجي أيضًا، حيث تتحول مساحات شاسعة من الأراضي الزراعية في أمريكا إلى مجمعات ضخمة لمراكز البيانات التي تستهلك طاقة تعادل استهلاك مدن بأكملها.

ولكن وراء هذا التسونامي الاستثماري، تكشف الأرقام عن مفارقة صارخة، ففي الوقت الذي تُقيم فيه شركة مثل "إنفيديا" بما يتجاوز 5 تريليونات دولار، وتخطط أخرى مثل "أوبن إيه آي" لاكتتاب بقيمة تريليون دولار، تشير تقارير ميدانية إلى أن الجدارة الاقتصادية الحقيقية لهذه التقنيات لاتزال موضع شك كبير، فقد وجد تقرير لشركة "ماكينزي" أن ما يقرب من 80% من الشركات التي تستخدم الذكاء الاصطناعي لم تجد له تأثيرًا كبيرًا على أرباحها، بل إن دراسة أخرى من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا (MIT) ذهبت إلى أبعد من ذلك، مشيرة إلى أن 95% من المنظمات المستثمرة في الذكاء الاصطناعي التوليدي تحصل على عائد صفري، وهذا يفسر الخسائر الفادحة لبعض عمالقة القطاع، حيث خسرت "أوبن إيه آي" حوالي 5 مليارات دولار في عام مع تحقيق إيرادات تقدر بحوالي 4 مليارات فقط.

فأين الحقيقة إذن؟ حيث يجد المحللون أنفسهم منقسمين على طرفي نقيض: فرأي المتشائمين (نعم، إنها فقاعة)؛ حيث يرى هذا المعسكر أن السوق يعاني من "هوس استثماري" تسوده عناصر من "اللاعقلانية"، على حد تعبير سوندار بيتشاي (Sundar Pichai)، الرئيس التنفيذي لشركة "جوجل"، ويشيرون إلى تضخم تقييمات الشركات الناشئة بشكل غير مبرر، وإلى نمط خطير من "الصفقات الدائرية"، حيث تستثمر شركات الرقائق مثل "إنفيديا" في شركات الذكاء الاصطناعي التي تشتري بدورها رقاقاتها، مما يخلق فقاعة داخلية هشة.

بينما رأي المتفائلون إنها طفرة حقيقية: فيعتقد هذا المعسكر أننا نشهد أكبر طفرة إنتاجية منذ الثورة الصناعية، ويستندون إلى أن الاستثمارات الضخمة تذهب إلى بنية تحتية حقيقية (مراكز بيانات، رقاقات) يدفعها طلب فعلي يتجاوز المعروض، وأن أرباح شركات مثل "إنفيديا" و"مايكروسوفت" هي أرباح حقيقية وليست وهمية، كما أن حجم الفرصة يتوقع أن يصل سوق الذكاء الاصطناعي إلى أكثر من 826 مليار دولار بحلول 2030.

وبين قوة الحماس الاستثماري وجدارة العائد الاقتصادي، تقف البشرية أمام مفترق طرق، هل سينفجر كل هذا الزخم، مخلِّفًا خسائر فادحة كما حدث في الماضي؟ أم أننا حقًا على أعتاب عصر جديد، حيث ستُثْبِت هذه الاستثمارات الهائلة أنها البذرة التي غيرت وجه الاقتصاد العالمي؟ والإجابة ربما تكمن في نقطة الوسط؛ الذكاء الاصطناعي تقنية حقيقية وقوية، لكن الأسواق قد تسبق الواقع بخطوات كبرى، والفاصل بين  "الازدهار" و"الوهم" قد يكون رهينًا بتلك الخطوات.

لقد شهد العقد الماضي ظاهرة هي الأعجب في تاريخ الاقتصاد والسياسة، وهي ظهور قوى جديدة على منصة الحكم العالمي، حيث تحولت شركات خاصة لا تملك جيوشاً ولا حدوداً جغرافية إلى كيانات تضاهي في قوتها ونفوذها دولاً كبرى وتعمل كمراكز سيادة موازية، فمجموعة من الشركات الأمريكية المعروفة باسم السبعة الكبار - تضم آبل، ومايكروسوفت، وإنفيديا، وأمازون، وألفابت (جوجل)، وميتا، وبرودكم - تبلغ قيمتها السوقية مجتمعة ما يقارب 20 تريليون دولار، وهو رقم يعادل تقريبًا حجم اقتصاد الاتحاد الأوروبي بأكملهويتفوق على الاقتصاد الصيني، وفي قلب هذه الظاهرة تتصدر شركة إنفيديا، التي أصبحت أول شركة في العالم تصل قيمتها السوقية إلى 5 تريليونات دولار، متجاوزة بذلك قيمة اقتصاد اليابان، لتصبح أكبر شركة مدرجة على الإطلاق.

لكن هذه القوة المالية الهائلة ما هي إلا الوجه الظاهر لتغير أعمق في طبيعة النفوذ العالمي، ولقد توقفت هذه الشركات عن كونها مجرد مؤسسات تكنولوجية أو اقتصادية، لتصبح فواعل جيوبوليتيكية مستقلة تمتلك وتتحكم في الموارد الحيوية للقرن الحادي والعشرين، فهي لا تنتج التكنولوجيا فحسب، بل تُهندس الواقع الرقمي نفسه الذي نعيش فيه. فهي تبني منظومات مغلقة تتشابك فيها البنى السحابية الضخمة، والبيانات الهائلة، والخوارزميات المعقدة، لتصنع فضاءً اقتصادياً ومعرفياً تتحكم بقواعده وحدها، لقد أصبحت شرائح إنفيديا المتطورة، على سبيل المثال، أشبه بمحرك التشغيل أو مزود الطاقة الفكري الأساسي لعصر الذكاء الاصطناعي، مسيطرًا على البنية التحتية للحوسبة والمعرفة كما سيطر من يتحكم في النفط أو الكهرباء في القرون الماضية.

والأكثر خطورة أن نفوذ هذه الكيانات قد تجاوز السيطرة على البنى التحتية ليمتد إلى تشكيل الوعي وتغيير الثقافة وصناعة السلوك البشري والتحكم في تدفق المعلومات، فمن خلال سيطرتها على منصات التواصل الاجتماعي، ومحركات البحث، وأدوات الذكاء الاصطناعيالتوليدي، تمتلك هذه الشركات قدرة غير مسبوقة على توجيه الرأي العام والتأثير في الاختيارات الفردية والجماعية، بل وحتى ترجيح كفة طرف سياسي على آخر، إنها تمارس نوعاً من "السلطة الناعمة" الأكثر اختراقاً وعمقاً من أي قوة تقليدية، سلطة تتلاشى أمامها الحدود الوطنية لأنها تنتقل مع كل دفقة من تدفق البيانات وكل اتصال عبر السحابة الإلكترونية، وهذا الوضع يخلق واقعاً جديداً يصفه بعض المحللين بأنه تحول من الحكم القائم على "العقد الاجتماعي" بين المواطن والدولة، إلى حكم يقوم على "العقد الخوارزمي" تُفرض شروطه من قبل كيانات خاصة.

وهكذا لم يعد السؤال يدور حول من يفوق من؛ اقتصاد الشركة أم اقتصاد الدولة، فلقد أصبح التحدي أكثر عمقاً، فهو يتعلق بمن يملك سلطة تشكيل الواقع والحقيقة في العصر الرقمي، وتقف هذه الشركات العملاقة اليوم كأقطاب لسلطة جديدة، لا تنبع من التفويض الشعبي أو السيادة الإقليمية، بل من الاحتكار الفعلي لعصب الحياة في عالم اليوم: البيانات، والخوارزميات، وقوة الحوسبة، إنها معادلة جيوبوليتيكية لم يشهد التاريخ لها مثيلاً من قبل.

وفي واحدة من أكثر الرؤى إثارة للقلق، يتنبأ المفكر الفرنسي جاك أتالي؛ بظهور طبقة حاكمة عالمية جديدة تختلف جوهريًا عن أي نخبة عرفها التاريخ، أطلق عليها اسم "المرتحلين فائقي الحركة (Hypernomads)، وهؤلاء ليسوا مجرد أثرياء تقليديين أو سياسيين أقوياء؛ بل هم أسياد الفضاء الرقمي والحركة غير المحدودة، ولا يرتبطون بولاء جغرافي أو قومي ثابت، فهم يتمتعون بحرية مطلقة في التنقل الفعلي والافتراضي بين مراكز السلطة والقرار حول العالم، ويعيشون في "فقاعات فاخرة" من المنتجعات الخاصة، صالونات الطائرات، قاعات القصور، والمجتمعات المسيجة.

فقوتهم لا تنبع من امتلاك الأرض أو الموارد الطبيعية التقليدية، بل من سيطرتهم على رأس المال غير المادي الأكثر قيمة في عصرنا: المعرفة، والشبكات، والبيانات، والخوارزميات، إنهم يديرون إمبراطوريات من الأصول المالية اللامرئية والشركات العابرة للقارات التي لا تعترف بالحدود، ولكن هذه القمة الهرمية الجديدة لا تقف وحدها؛ فهي تعتمد في استدامة هيمنتها على طبقة متوسطة ضخمة، يقدر أتالي عددها بنحو 4 مليارات شخص، يمكن تسميتهم "المرتحلين الافتراضيين"  (Virtual Nomads)، وهم جيش من التقنيين، العلماء، المدراء، والمهندسين الذين يعملون عن بُعد داخل شبكات معقدة لشركات لا مركز جغرافي محدد لها، وهؤلاء هم "الطبقة العاملة المعرفية" الجديدة التي تدفع عجلة الاقتصاد العالمي من خلف شاشات الحواسيب، ويتقاضون رواتب جيدة لكنهم يفتقرون إلى الأمن الوظيفي والاستقرار الجغرافي الذي تمتعت به الطبقة الوسطى في القرن العشرين.

وفي قاع هذه الهرمية الجديدة، يرسم أتالي صورة قاتمة لما يقرب من 3.5 مليار إنسان سيُتركون في حالة أسماها "تحت الترحال" (Infranomads)، وهؤلاء هم سكان المناطق المهمشة، والاقتصادات المنهارة، والمناطق التي تجاوزتها الثورة التقنية، هؤلاء هم المحرومون من إمكانيات الحركة والفرص، هم "ضحايا الإمبراطورية الفائقة" (Victims of Super-Empire)، سيعيشون في بؤس نسبي أو مطلق، محرومين من فرص الحركة الفعلية أو الافتراضية الفاعلة، ومحاصرين بجغرافيا اليأس، ويشكل هذا الانقسام الحاد، بين نخبة متحركة عالميًا وجماهير ثابتة محليًا؛ أخطر خط صدع اجتماعي وسياسي في المستقبل، وهو برميل بارود قد ينفجر في وجه النظام العالمي عبر موجات من السخط والثورة والهجرة غير المنضبطة، مما يهدد بإسقاط نموذج "المرتحل فائق الحركة" نفسه.

إن مستقبل الحكم في ظل الثورة التكنولوجية الراهنة ليس مساراً واحداً محتوماً، بل هو ساحة مفتوحة على احتمالات عدة متصارعة تقف عند مفترق الطرق، وأي مسار ستسلك البشرية في عصر الذكاء الاصطناعي؟ فلقد غدت السيناريوهات المتوقعة أطراً فلسفية لمعارك فكرية تُخاض اليوم في مختبرات التطوير ومراكز صنع القرار حول العالم، بين مخالب "فرط الإمبراطورية" الاستبدادية وبريق "فرط الديمقراطية" التشاركية، حيث يقف مصيرنا البشري معلقاً على الاختيارات التي نصنعها الآن، فيحدد كل مفترق طرق هوية الحاكم الجديد: هل ستكون الخوارزميات، أم النخب العالمية، أم إرادة الجماهير؟

سيناريوهات مستقبل الحكم

"1. "الإمبراطورية المفرطة " (Hyperempire) 

أحد أكثر السيناريوهات المستقبلية قتامة وإثارة للتفكير، في هذا المشهد، لا تتراجع الدولة القومية فحسب، بل تُستبدَل كلياً بإمبراطورية جديدة ليس لها عَلَم ولا حدود، لكنها تملك سلطاناً مطلقاً: إمبراطورية السوق المُطلَقة، وتتحول الكرة الأرضية إلى سوق عالمية فوضوية واحدة، تسير وفق منطق اقتصادي ليبرالي متطرف، حيث تكون القيمة السوقية هي المعيار الأخلاقي والحضاري الوحيد، وفي هذا العالم تفقد الحكومات الوطنية سلطتها تدريجياً لصالح تحالفات الشركات العابرة للقارات والمؤسسات المالية التي لا ولاء لها إلا للربح، ويصبح المواطن مجرد "مستهلك كوني"، وتتحول الثقافات إلى "سلع قابلة للتسويق".

والنتيجة الأكثر خطورة لهذا التطور هي التفتت والانقسام الجيوتكنولوجي، فبدلاً من نظام عالمي متكامل، قد ينقسم الكوكب إلى كُتل أو "تكتلات" تكنولوجية-اقتصادية منعزلة، المحور الأول بقيادة الولايات المتحدة وحلفائها، ويسعى لحماية نموذج يعتمد على سيادة البيانات الفردية والرقابة الأخلاقية (وإن كانت انتقائية) على الخوارزميات، والمحور الثاني بقيادة الصين، يروج لنموذج بديل يقوم على سيادة الدولة على الفضاء الإلكتروني ودمج الذكاء الاصطناعي مع آليات الرقابة الاجتماعية الشاملة.

وسيخلق هذا الانقسام عالمين رقميين متوازيين غير متوافقين: واحداً يعمل على نظام أندرويد وآخر على نظام هارموني أو إصدار صيني من الإنترنت؛ واحداً يستخدم معايير اتصال الجيل السادس (6G) الغربية، وآخر يستخدم المعايير الصينية، وستتضاعف سلاسل التوريد، وتنقسم أسواق التقنية، ويعاد إحياء ديناميكيات "الستار الحديدي" في القرن الحادي والعشرين، لكن هذه المرة ليس بجدار من الإسمنت، بل بجدار من الأكواد البرمجية غير المتوافقة والبروتوكولات المغلقة، ويصبح العبور بين هذين العالمين صعباً، مما يعمق الفجوة ليس فقط بين الدول، بل بين نماذج حضارية متصارعة على تعريف مستقبل البشرية.

2."الديمقراطية المفرطة " (Hyperdemocracy) 

لكن في مقابل سيناريو الفوضى والانقسام، تتقدم رؤية بديلة للأمل، وهي ليست مجرد تحسن طفيف في الأنظمة الحالية، بل هي طفرة تشاركية في مفهوم الحكم نفسه، حيث تُستعاد السلطة من قبضة النخب التقليدية - سواء كانت سياسية أو تكنولوجية - وتُوزع على شبكات مُوزَّعة من الأفراد والمجتمعات. ويقوم هذا النموذج على تحالف غير مسبوق بين الإرادة الجماعية للإنسانيةوالقوة التحويلية للتكنولوجيا، فهو يعيد تخيل الديمقراطية ليس كعملية انتخابية كل بضع سنوات، بل كنسيج حيوي مستمر من المشاركة، وتتحقق هذه الرؤية من خلال عدة ركائز: شبكات التضامن العالمية التي تتجاوز الحدود، ومنصات الديمقراطية التشاركية المباشرة التي تمكن المواطن من التشريع والسياسة في الوقت الفعلي، وانتشار الشركات المسؤولة ذات المهام المجتمعية، ونمو القوة المالية اللامركزية عبر العملات الرقمية المجتمعية والقروض الصغيرة، والاستفادة من "الذكاء الجماعي" عبر أدوات التعهيد الجماعي (Crowdsourcing)  لحل المشكلات العالمية.

والتحدي المركزي لتحقيق هذا الحلم هو بناء إطار حوكمة عالمي وأخلاقي للتكنولوجيا، وخاصة الذكاء الاصطناعي، قبل أن يسبقنا تطورها، ويتطلب هذا مستوى غير مسبوق من التعاون العالمي الحقيقي - وليس الخطاب الدبلوماسي فقط لوضع مبادئ تضمن الشفافية والمساءلة والإنصاف، وتلوح في الأفق بوادر مبشرة لهذا التعاون، مثل قمة باريس للذكاء الاصطناعي 2025 والتي تسعى لتأسيس "إطار دولي أخلاقي للثقة في الذكاء الاصطناعي".

ومع ذلك، فإن الطريق إلى "الديمقراطية المفرطة" أكثر وعورة من طريق "الإمبراطورية المفرطة"، فهو يستلزم إرادة سياسية جريئة، ونضجاً مجتمعياً، وتغليب المصلحة الكوكبية على المصالح الضيقة، ولكنه يبقى الخيار الوحيد الذي يحفظ كرامة الإنسانفي مواجهة الآلة، ويحول التكنولوجيا من أداة هيمنة إلى أداة تحرير، والسؤال المصيري هو: هل ستستطيع البشرية، في سباقها مع الزمن التكنولوجي، أن تختار طريق التعاون الصعب، أم ستستسلم لجاذبية الانقسام السهل؟

الخاتمة: البشرية على مفترق طرق

يتبدد عالمُنا القديم، ويولد عالمٌ جديد، ولقد تحول السؤال؛ "مَن سيحكم العالم غداً؟" مِن لغز بسيط إلى معادلة وجودية مركبة، لم تعد أطرافها دولاً وجيوشاً فحسب، ونحن نعيش لحظة انزياح كوني، حيث تنتقل السلطة من مراكز القوى التقليدية إلى الفضاءات الرقمية؛ ومن القصور الرئاسية إلى صوامع مراكز البيانات العملاقة، ومن أروقة الوزارات الحكومية إلى مختبرات الشركات التكنولوجية العابرة للقارات، لقد تحولت التكنولوجيا، وخاصة الذكاء الاصطناعي، من مجرد أداة في يد الإنسان إلى لاعب جيوبوليتيكي مستقل، وأصبحت شيئاً يُحكَم عليه (The Judged) كظاهرة اجتماعية وأخلاقية وقانونية يجب تقييمها، و في نفس الآن هي أداةً يُحكم بها (The Ruler) لممارسة السلطة واتخاذ قرارات مصيرية، وأصبح النقاش حول من يملك خوارزميات التحكم في البيانات وتدفق المعلومات، هو من يملك القوة التي قد تهدد مستقبل الديمقراطية لدى الشعوب ذاتها.

واليوم، تقف البشرية على مفترق طرق تاريخي، حيث تتصارع رؤيتان متعارضتان للمستقبل، ففي مسار اليمين، ينفتح هاوية سيناريو "الإمبراطورية المفرطة"، حيث تسود الفوضى الليبرالية المتطرفة، وينقسم العالم إلى كتل تكنولوجية مغلقة تتصارع عليها الشركات والحكومات، وتتحول الخوارزميات إلى قوة مهيمنة تتحكم بمصير البشر وترسم حدود حرياتهم، أما في مسار اليسار، فيوجد أمل ضئيل ولكنه ممكن لسيناريو "الديمقراطية المفرطة"، ويعتمد على التعاون العالمي لإخضاع القوة التكنولوجية لمنظومة قيم إنسانية وأطر أخلاقية شاملة.

والخيار بين هذين المسارين هو أهم تحدٍ حضاري تواجهه البشرية، إنه صراع بين قوى السوق الجامحة التي لا تعرف سوى الربح، والقدرة البشرية على التضامن والتوجيه الأخلاقي، فهل ستستسلم المجتمعات لقدرها، لتُحكَم من قبل خوارزميات غير مرئية تتحكم في معلوماتها وتُشكِّل وعيها؟ أم ستتمكن من "تغيير قواعد اللعبة" وبناء توازن جديد بين التطور المادي والوعي الحضاري، حيث تُوظف التكنولوجيا لتحرير الإنسان وليس لاستعباده؟ والإجابة ليست مكتوبة في الكود البرمجي، بل في إرادتنا الجماعية، فالمستقبل مجهول، لكنه بيد من يصنعونه.

وفي النهاية، بينما تتضاءل الإجابات التقليدية، تبرز حقيقة واحدة قاسية: "من يتحكم في الخوارزميات سيحكم العالم"، فلقد تجاوزنا عصر التنافس على الأرض والموارد إلى عصر السيطرة على البنية التحتية للواقع الرقمي نفسه؛ فمن يملك مفاتيح الخوارزميات التي تشغل الاقتصاد، وتشكل الوعي، وتوجه القرارات الاستراتيجية، يملك بالفعل مقاليد السلطة في القرن الحادي والعشرين.

ولكن قبول هذه الإجابة يفتح أمامنا هاوية من الأسئلة الأكثر جوهرية وخطورة: فبيد مَن ستكون سيادتنا الجديدة؟ وهل ستستخدم هذه القوة الهائلة لتحرير الإنسان أم لاستعباده بشكل أكثر دهاءً؟ والسؤال المصيري الذي يتجاوز "الكيفية التقنية" إلى "الغاية الوجودية" هو: كيف نضمن أن يحكم هذا النظام الجديد - القائم على معادلات رياضية وبيانات باردة - بقيم أخلاقية دافئة تحفظ كرامة الإنسان، وتصون حريته، وتحقق العدالة، وتحافظ على التوازن الدقيق لكوكبنا الهش؟

وهذه ليست مشكلة تِقنية أو سياسية فحسب، بل هي المعضلة الجيوفلسفية الأعظم في عصرنا، إنها التحدي الذي يضع الإنسانية على محك حقيقي: هل سنسمح لأنفسنا بأن نُحكم بواسطة أنظمة ذكية لكنها عديمة الضمير، تهدف لتحقيق الكفاءة القصوى بغض النظر عن الثمن الإنساني؟ أم أننا قادرون على هندسة مستقبل تكون فيه التكنولوجيا خادماً لتطلعاتنا الإنسانية الجميلة، وليس سيداً عليها؟

والإجابة ليست في أكواد البرمجة، بل في إرادتنا الجماعية، فالمستقبل لا يُتنبأ به فقط، بل يُصنع والخيار بين عالم تحكمه خوارزميات بلا بصيرة، وعالم تشرق فيه القيم الإنسانية فوق سحابة البيانات، هو خيارنا نحن، تلك هي المسؤولية الأخيرة، والتحدي الأكبر.
---------------------------------
بقلم:
 أحمد حمدي درويش

مقالات اخرى للكاتب

صراع السيادة الرقمية: غداً.. من سيرسم مصير العالم؟